استوطن بغداد في صدر الدولة العباسية فئة نحلتها الصابئية، نزحت إليها من حران والرقة المشتهرتين بمنازل الصابئة. تلك الفئة هي آل زهرون وأنسابهم آل قرة.
أصابت هذه الجماعة الصابئية في بغداد نصيباً وافراً من العلم والأدب والطب، فمهرت في كلياتها وجزئياتها، ودفعتها فطنتها وتوقد ذكائها إلى تقلد جلائل الأعمال بخدمة خلفاء بني العباس وأمرائهم ووزرائهم، فسار ذكرها في الآفاق، وكان عليها العماد لطائفة من الأعمال التي قامت بها خير قيام.
ومما زاد في علو شأن هذه الأسرة أن جماعة من أفرادها خلفوا مؤلفات جليلة في بحوث نافعة كالأدب والتاريخ والطب والفلك وغيرها. وسيكون مدار كلامنا على أحد أعلام هذه الأسرة وهو:(هلال بن محسن الصابئ).
مولده ونشأته
هو أبو الحسين (وقيل أبو الحسن) هلال بن المحسن ابن أبي إسحاق إبراهيم بن هلال بن إبراهيم بن زهرون ابن حيون الصابئ الحراني، لقب بالرئيس، كان مولده ببغداد في شوال سنة تسع وخمسين وثلثمائة للهجرة، ونشأ بها وكان أبوه المحسن صابئياً، وأمه أخت ثابت بن سنان بن قرة الطبائعي المؤرخ الشهير. وقد أسلم هلال في أواخر أيامه، وحسن إسلامه. ويعد أول أبناء بيته الذي ترك نحلته القديمة ليسلم
تغلغل هلال في دار الخلافة العباسية ببغداد، فعرف نواحيها ورسومها وأسرارها، وبرع في آداب الخلفاء ومجالستهم حتى فاق جده إبراهيم؛ ذاك الذي خنق التسعين في خدمتهم. وتولى هلال أموراً عديدة منها ديوان الإنشاء، وعين حيناً كاتباً لأسرار فخر الملك أبي غالب محمد بن خلف الذي ترك له مبلغاً كبيراً من المال عند وفاته، غير أن هلالاً امتنع عن التصرف فيه، لأنه كان يتقاضى ما يمكنه من العيش من الدولة فترك الإرث لأبنه غرس النعمة.