حينما انهارت فرنسا أحدث انهيارها المفاجئ هزة أرضية عالمية، دهش لها من دهش، وابتهج بها من ابتهج، وبكى بها من بكى. وكان الظن بكتاب العرب يومئذ وهم الذين اكتووا طويلاً بنار الاستعمار الفرنسي أن يتنفسوا الصعداء بزوال هذا الكابوس، ولكنهم انقادوا للنوازع الإنسانية والأدبية فيهم فكتبوا يرثون فرنسا ويرثون لها ويعطفون عليها، إلا هذا الكاتب المفكر الكبير فأنه عارض هذه النزعة وعالج الموضوع على ضوء الحقائق المجردة والوقائع الثابتة. ولم تتهيأ لنا الفرصة يومئذ لنشر هذه الآراء القيمة، فنشرها اليوم بمناسبة المأساة السورية فإنها جمرة متقدة من تلك النار، وأثر سيئ من آثار ذلك الانهيار.
. . . أخذ عدد غير قليل من الكتاب العرب يتبارون في نشر المقالات ونظم الأشعار، حول هذا الانهيار، وكان معظم ما كتب في هذا الموضوع (عاطفياً) بكل معنى الكلمة. كان أكثرها مراثي تندب حظ فرنسا، وتظهر أسفاً شديداً، وحزناً عميقاً على الكارثة التي حلت بها؛ وكان بعضها يغالي في الرثاء، إلى أن يبلغ به درجة البكاء. . .
غير أن هذه المراثي قوبلت بمعارضة شديدة، فقد حمل عليها بعض الكتاب حملات عنيفة وقالوا: كيف يجوز لكاتب عربي أن يبكي على فرنسا وينسى ما فعلته بالقسم الأعظم من البلاد العربية؟ كيف يجوز لمفكر عربي أن يرثي النكبة التي حلت بفرنسا وهو يعلم أنها كانت من أهم العوامل التي أنزلت أكبر النكبات بالأمة العربية وبخاصة بعد الحرب العالمية؟
احتدم الجدال بين الفريقين؛ وحاول كل فريق أن يبرر حسن عواطفه بمقالات حارة، أودع فيها كل ما أوتي من قوة البلاغة والبيان. . .
أنا من الذين يعتقدون أن الكتابات العاطفية تعبر عن نفسية كتابها الشخصية وخوالجهم الذاتية، فلا تتحمل المناقشة مناقشة علمية. . . غير أن أصحاب المراثي لم يكتفوا بإظهار عواطفهم وتثبيتها، بل أخذوا يدافعون عنها ويدعون إليها، وحاولوا أن يدعموها ببعض الآراء والنظريات السياسية والاجتماعية. .
فإذا جاز لنا أن نسكت تجاه (العواطف الشخصية)، فلا يجوز لنا أن نلزم مثل هذا السكوت