قلت عن طريقة الرافعي في تأليف مقالاته ما وسعني أن أعرفه بنفسي حين كنت أكتب له؛ فقد أملى عليّ أكثر من مائة مقالة كنتُ شاهدَه فيها إذ يُلَقَّى الوحيَ، ويهذب الفكرة، ويرتب المعاني، ويتألف الألفاظ، حتى تفصل عنه المقالة إلى نفس قارئها كما هي في نفسه.
وأحسب أن طريقته العامة في كل ما كتب من المقالات هي ما وصفْتُ عن عيان وملاحظة، ولكن لم يتهيأ لي أن أشهده حين يؤلف في موضوع من موضوعات العلم، مما يقوم على التتبع والاستقراء، وتقليب الصحائف، وبعث الدفائن، والارتفاق إلى الكتب، والاستعانة بما انتهى إليه السابقون من حقائق العلم ونتائج البحث والروية، ثم التهدِّي من ذلك إلى رأي ينتهي بمقدماته إلى نتيجة.
وطريقة الكتابة غير طريقة التأليف؛ أعني أن الطريقة لإعداد مقالة أو فصل أدبي من مثل (رسائل الأحزان) أو (السحاب الأحمر) أو (المساكين) - غيرُ الطريقة في إعداد كتاب مثل (تاريخ آداب العرب)؛ فإن الشأن بين هذين مختلف باختلاف موضوعهما؛ ذلك أن في كل نفس معانيها التي تعِّبر بها عن الحب والبغض والقطيعة وما إليها من خلجات الوجدان أو مدركات الحس، بأسلوبها وعلى مقدارها؛ فما يحتاج الأديب لتصويرها وإبرازها إلى شئ غير الأداة الطبيعية التي يؤديها بها إلى الناس كلاماً مقروءاً يصل نفساً بنفس وينقلها من خطرة قلب إلى إدراك حس. أما تأليف الكتب العلمية فله سبيل غير هذه، لأنه يقوم على الجمع والتفريق، وعلى النقد والتصفح، وعلى الاستقراء والملاحظة.
وأنا قد قرأت الجزء الأول من كتاب تاريخ آداب العرب منذ بضع عشرة سنة، وألممت منه بما ألممت، واهتديت به ما اهتديت؛ ثم عدت إلى نفسي أسائلها: أين وأيان اجتمع لمؤلف هذا الكتاب هذا القدْرُ من المعارف في شئون العرب والعربية فألّف بين أشتاتها في هذا الكتاب؟
وظل هذا السؤال قائماً في نفسي زمناً، وما أزال من مطالعاتي في الأدب القديم أقع على شئ بعد شئ في صفحات متفرقة من كتب عدة يُنسى آخرها أولها من تباعد الزمان بينها،