وكلها مما اجتمع للرافعي في كتابه. وكان ذلك يزيدني عجباً وحيرة؛ فإنه ليس من الطبيعي أن يعرف إنسان كل من يراه في طريقه من الناس بحيث يتهيأ له أن ينسب بعضهم إلى بعض ويعرف القريب منهم والجنيب بما بينهم من تشابه في الخلقة؛ ولقد يكون ممكناً أن يجلس أخَوان بإزائي فأعرف ما بينهما من النسب بالمشابهة والفراسة، ولكن هيهات أن أهتدي إلى ذلك لو رأيتهما متفرقين على تباعد الزمان وانقطاعالصلة. من مثل ذلك كان عجبي وحيرتي
. . . وهممت أن أسأل الرافعي مرة، ولكني لم أفعل؛ وهممت أن أعرف بنفسي فلم أبلغ؛ ثم عزوت ذلك إلي ذاكرة الرافعي وسرعة حفظه؛ وقلت: متفرقاتٌ قد عرفها في سنين متباعدة فوعتها حافظته، فلما هم أن يؤلف كتابه أمدته الذاكرة بما وعت منها، وكان مستحيلاً عليه أن يجمعها لو لم تجتمع له من ذات نفسها، واطمأننت إلى هذا الاستنتاج ونسبتُ إليه عدم ذكر الرافعي للمراجع التي استعان بها في هذا الكتاب؛ لأنه يروي عن ذاكرته!
ثم قرأت له بحثه في (الرواية والرواة)؛ فإذا هو يتحدث عن أثر الحفظ في مؤلفات العلماء وينادي بإحياء هذه السنة، سنة حفظ العلم واستظهار كتبه؛ فتأكد لي ما رأيت، وكان وهما من الوهم عرفت حقيقته فيما بعد. . .
أما الحقيقة التي عرفتها بعد، فما أزال في شك منها وإن كان برهانها ماثلاً لعيني؛ ولكنه شك المتعجب الذي يفجأه ما لم يكن يتوقع. . .
منذ بضعة أشهر وكل إلي القيام على تصحيح بعض مؤلفات الرافعي التي تطبعها الآن إحدى دور النشر الكبرى في القاهرة؛ فأخذت أهبتي للعمل. . .
. . . وزرت المكتبة التي خلفها صاحبها أوراقاً مركومة وكتباً تستند إلى الحيطان؛ أريد بذلك أن أبحث فيها عما يكون هناك من مستدركات على بعض الكتب المطبوعة، فأزيدها عليها؛ وأبحث عن (أصول) الكتب التي لم تطبع بعد، فأرتب فصولها وأعدها للطبع. وفتحت أدراج الدولاب، فرأيت وعرفت السر. . .
رحمه الله!
ذلك جهد لا يقوى على مثله جند سليمان ولكنه قَويَ عليه وحده، ثم مات وخلَّفه شاهداً على