(القيثارة الخالدة التي غنت أروع أناشيد الجمال والحرية
والخيال. . .)
للأستاذ محمود الخفيف
- ١٢ -
رحلة إلى إيطاليا:
قضى ملتن نحو ستة أعوام في هورتون بين كتبه وأوراقه، وهي في الحق عزلة طويلة ما كان ليطيقها لولا عزم مصمم ورغبة قوية في الاستزادة من المعرفة والتأهب لعظيمة في دنيا الشعر.
بيد أن القلق أخذ يساوره والسأم يهجس على قلبه في نهاية العام الخامس من مقامه في القرية أي سنة ١٦٣٧ قبيل نظمه مرثيته الرائعة ليسيداس، نتبين ذلك مما كتبه إلى صاحبه ديوداتي في سبتمبر من تلك السنة، وكان ديوداتي قد صار يومئذ طبيباً تشغله مهنته فعتب عليه ملتن عتباً عنيفاً أن لم يف بوعده في زيارته وكانت لهجة الكتاب غاضبة شاكية تنم عن حال من الضجر والسأم من طول مصاحبة الكتب والابتعاد عن الدنيا إلى هذا المضطرب الضيق المحدود في القرية.
والحق إن هذه العزلة وإن أجدت على الشاعر كثيراً من الثقافة والاطلاع لم تخل من بعض الآثار السيئة، فقد زادت من ذهابه بنفسه واعتداده برأيه ووثوقه من ارتفاع مستواه من غيره، وإلى ذلك يعزى إلى حد ما صرامته في الجدل فيما كتب بعد وتعاليه على مخالفيه في الرأي وعنفه في الخصومة، وغياب ما عرفه خلانه في مجالسته من عذوبة روحه ورقة حاشيته وطلاوة حديثه.
وكانت قد ماتت أمه في أبريل من هذه السنة، وبموتها ازداد قلقه وازداد ميله إلى الرحيل عن هورتون، وأصبح يحس أن مقامه فيها قد أشرف على النهاية، فقد كان يجد في ابتسامة أمه له وحدبها عليه وثقتها في مستقبله وفرحها بطموحه عزاء له وبهجة لروحه في هذه