العزلة القاسية، أما أبوه فقد جاوز السبعين وهجر ألحانه وقراءاته، ورغبت نفسه عن الحديث في الأدب والفن إلا قليلاً، ولهذا لم يعد ابنه يجد عنده ما كان يجده من قبل من بشاشة وإقبال إذا كان يفضي أليه بآماله ويحدثه عما يقع عليه من مطالعاته من رأي سديد أو تعبير بليغ أو نادرة حلوة.
ورد عليه ديوداتي يتمنى له راحة البال وهدوء الحال، وسأله عما هو فيه. وكتب إليه ملتن كتاباً لم يك فيه ما كان في سابقه من الضجر، ما ذلك إلا لأنه قد عقد العزم على أن يرحل. وكان يفكر أول الأمر في الإقامة في أحد فنادق لندن، وفي هذا الكتاب أجاب ملتن إذ يرد على تساؤل صديقه بتلك العبارة التي أسلفنا الإشارة إليها ألا وهي تهيؤه لعمل يسلكه في الخالدين.
وصح عزمه في ربيع سنة ١٦٣٨ على الرحيل إلى إيطاليا لتكون رحلته فيها متعة لنفسه وثقافة لعقله، فما إن تزال الثقافة هي حافزاً إلى كل ما يعمل من عمل، كأنما يضن بوقته أن يكون فيه قسط للراحة أو للمتعة الخالصة.
ولم يبخل الموثق الشيخ على ابنه بالمال اللازم له ولخادم يتبعه فأمده بثلاثمائة وخمسين من الجنيهات وكانت تساوي يومئذ نحو ألف مما نتداوله اليوم، وحمد ملتن لأبيه سخاءه، وكان يتوجس خيفة منه حين هم بطلب ذلك المال، وكان حرياً أن يخاف، فهو قد بلغ الثلاثين من عمره ولما يزل في رأي أبيه عاطلاً لم ينهض بعمل مما كان يحبه له، وكأنما لم يكفه ذلك فجاء يطلب من أبيه مالاً ليستمتع بالرحيل إلى إيطاليا!
والحق إنها يد للموثق الشيخ تضاف إلى سالف أياديه على ابنه، ولم ينس الابن أنه تركه لما كان فيه من الشعر، إذ آنس منه وهو بعد غلام أنه يحب أن يجعل من نفسه هوميروس آخر وكان أبوه يحب أن يكون منه كلفن ثان، ولم ينس أنه قبل ولو على كره انصرافه عن الوظيفة مدنية كانت أو دينية، وأنه وافق على مقامه في هورتون ليتفرغ للدرس والاطلاع وهو خريج الجامعة؛ لم ينس الشاعر الشاب شيئاً من هذا ولذلك فهو مغتبط بسماحة أبيه ونور بصيرته، ومرد ذلك فيما يرى الشاعر إلى ما تذوقه أبوه من نعمة الثقافة، وما فتح عليه عينيه من نور المعرفة.
وكانت إيطاليا يومئذ منتجع خواطر الرجال والشباب من كل أمة على اختلاف ثقافاتهم