وميولهم، فكانت تجتذبهم إليها اجتذاباً، وكان لا يحس المرء بكامل ثقافته إلا إذا زار معالمها أو معالم النهضة في أنحائها، وكان بها لكل عقل متعة، يجد فيها ضالته رجل الفن ومحب البحث في الآثار القديمة والعاكف على دراسة التاريخ والمولع بالمعمار، والمفتتن بمشاهد الطبيعة والمشتغل بالفلسفة والعلم، ولا عجب ففي إيطاليا ازدهرت الحضارة الرومانية، وفيها أشرقت شمس النهضة الأوربية منها انبعثت أشعتها، وهي مهد أوفيد وفرجيل، وموطن دانتي وبتراك وتاسو ورفائيل وميكائيل أنجلو وجاليليو، وكانت في النصف الأول من القرن السابع عشر حين رحل إليها ملتن كسوق انقضت إلا قليلاً، فلا يزال بها من سحر النهضة وجمال مواكبها بقية.
وكان أمر طبيعياً أن ينجذب ملتن إلى إيطاليا وهو ابن النهضة بدراسته وروحه وفنه، وما يزال يتجه بخياله وعقله إلى الربيع الأليزابيثي الراحل وكان موكباً من مواكب النهضة وإن له في مشاهد إيطاليا وفي لقاء شعرائها ورجال الفن والذوق فيها وإن كانوا ظلالاً لمن مضى من الأفذاذ، لمتعة يطرب لها قلبه، وتأنس بها روحه.
وكان لملتن أكثر من عدة إلى إيطاليا، فإلى جانب ما أمده به أبوه من مال، كان له باللغة الإيطالية علم كاف، وبتاريخ إيطاليا معرفة وثيقة، كما أنه حصل على كتاب توصية به من بعض ذوي الحيثية، وكان من بين تلك الكتب كتاب من سير هنري وتون وقد قضى سير هنري سنين من عمره في إيطاليا، وله فيها أصدقاء من ذوي المكانة
ونصح سير هنري لملتن فيما نصح له به أن يتجنب المناقشات الدينية، وأن يكون حريصاً في هذا ما وسعه الحرص؛ وكان سير هنري خبيراً بما عسى أن يجلب على المرء المتاعب في إيطاليا، كما أنه كان يلمس من تحمس ملتن لرأيه ومن شدة كراهته لبابوية روما وقساوستها ما جعله يكرر النصح في إلحاح وشدة
وصل ملتن إلى باريس في أبريل أو مايو سنة ١٦٣٨، وهناك لقيه السفير الإنجليزي بالترحاب والحفاوة وقدمه إلى جروشْيَسْ وكان جروشيس يعيش منذ بضع سنين في كنف ملك فرنسا لويس الثالث عشر، وكان رجلاً مشهور المقام في الأدب والفلسفة والسياسة والبحث الديني، وكان قد حكم عليه في بلاده بالسجن مدى الحياة بسبب آرائه الدينية التي خالف بها مذهب كلفن في القضاء المحتوم، وفر بمساعي زوجته إلى فرنسا، حيث طاب له