المقام، وأظهر جروشيس الحفاوة بملتن وأبدله المودة وأثنى عليه، وذكر له ما سمعه عن نباهة شأنه في الشعر
وفي يوليو بلغ ملتن فلورنسه عن طريق نيس وجنوة، وأقام الشاعر في فلورنسة شهرين، وقد أحب ملتن فلورنسة وأهلها حباً قوياً، وكانت تمتاز يومئذ بجماعاتها الأدبية، وكان بها من تلك الجماعات ست شهيرة، وكانوا يسمونها الأكاديميات، وشتان بينها وبين الأكاديميات الحديثة ذات القوانين المحددة والأصول المرعية في البحث والدرس، وإنما كانت هي منتديات يلتقي فيها ذوو الثقافة فيتناقشون فيما يعرض لهم من المسائل في جلسات ترفع فيها من بينهم الكلفة وتزداد الألفة؛ وقد تنقل ملتن بين هذه الجماعات وكان يقابل فيها جميعاً الحفاوة والمردة، وأصغى ملتن وتكلم في تلك المنتديات، وكان هو ومضيفوه ينتقلون من حديث إلى حديث حيثما تتشعب طرق الكلام، فتناولوا الأدب والعلم والفلسفة والرقابة على المطبوعات والسياسة والدين؛ وتكلم ملتن عن عقيدته الدينية كما تعرض لعقيدتهم، وأصغوا إليه في دماثة وهدوء، ووافقوه على كثير مما يقول، بل إنهم ذهبوا إلى أكثر من ذلك فشكوا إليه وقد وثقوا منه ما يعانون من استبداد الكنيسة وطغيانها، الأمر الذي يمقتونه أشد المقت؛ وقد جاء فيما كتبه ملتن عن تلك الزيارة ١٦٤٤ قوله:(جلست بين المثقفين من رجالهم، وقد عدوني سعيداً أن ولدت في إنجلترا بلد الحرية الفلسفية كما تصورها يومئذ، في حين أنهم لم يترك لهم شيء إلا أن يئن المثقفون منهم مما يلاقونه من عنت وشدة، وإلى ذلك يعزى ما أحاط بأولى الألمعية من الإيطاليين من ظلمة، وإليه يعزى أنه لم يكتب طوال هذه السنين الكثيرة في إيطاليا إلا الملق والادعاء!)
وكان مما اعتاده أعضاء هذه الأندية أن يلقى كل واحد منهم ما يبرهن به على ذكائه وسعة اطلاعه، واستمع ملتن إلى كثير مما ألقي أمامه بالإيطالية، وجاء دوره فتلا في إحدى هذه الجماعات عن ظهر الغيب بعض قصائده اللاتينية التي نظمها في أول شبابه، وبعض قصائد أخرى نادرة وقع عليها أثناء مطالعاته، كما أنه ألقى عليهم بعض ما نظم بالإيطالية، وقد طربوا كثيراً لهذه القصائد الأخيرة وبالغوا في امتداحها، وعبورا عن شعورهم نحو صاحبها بمدائح لاتينية ذكر ملتن أنها (مما يضن به الإيطاليون على من يقطنون في هذا الجانب من الألب).