لم يسعدني الحظ بعد بالتعرف إليك - وبين النعمة والنقمة نقتطان هما الحظ - ولكنني قرأت كلمتك عن (قطراتي) في (الرسالة) فتبينتك على ضوء قلمك الصافي العميق صفاء الينبوع وعمقه، وما أجمل الصفاء والعمق يجتمعان! ما أجمل الأديب - وأنت هو الأديب - يفتش عن الكتاب العاري الذي لا يتشح بغلاف، لعل فيه قوة مكنونة ضائعة فيلبسه وشاحه ويجبي صاحبه بتلك الكلمات الفواحة بطيب الخلق وعبيره. . .
لقد هزني في الصميم قلمك الحي الصادق الصريح المخلص للأديب وبنيه كما هزك كتابي. وأنا كنت هجرت الأدب لرأيتني أعود إليه اليوم وقد أيقظت ما رقد في صدى! ولكن القضاء لم يشغلني ولم يشغلني عن الأدب الذي هو محور كياني وقبله أملي في هذه الحياة الصغيرة القصيرة التي لا تتسع للحلم البعيد الكبير، وكأن بينهما عداء قديما لا أدري من أثاره ولماذا أثير. . .
أحييك شاكرا لك حسن ظنك، معجباً بروحك وكأسك التي لا شائبة فيها ولا ثمالة.
إن لي إلى جانب الفجر في كل يوم فجري الذي يأتيني بتلك (القطرات) ويأبى أن يفارقني كأنه يقول: أنت صاحب القطرات ولست شيئاً آخر؛ ذلك هو حكم القدر في الناس يفرغهم على الصور التي يختارها. . .
لدي الآن بالعربية من طراز الكتاب الذي وقعت عليه (القطرات) التي أبعث بها إليك، ما يسمع ثلاثمائة صفحة من القطع الكبير أود إخرجها في كتاب للأقطار العربية، ولكنني لم أوفق بعد في تحقيق هذه الأمنية، ولدي من الطراز نفسه كتاب الإنجليزي لم يطبع بعد، وكتاب بالفرنسية طبع في عام ١٩٣٦ أبعث إليك أيضاً بنسخة منه. . .
منذ ربع قرن وأنا أكتب وتبقى لي كتبي لا أوافق في نشرها على الملأ، وأنا لا أملك في الدنيا غير قطراتي التي تفتش عن كؤوسها. . . وكأنه كتب للخيال الخلاق أن تنكره الحياة لمواليده وتحرمها الغذاء والدواء، فتظل عرباته في العراء تتحرق وتتلوى بين الضعفاء