وقد كان أرباب الفصاحة كلما ... رأوا حسنا عدوه من صنعة الجن
(أبو العلاء)
يتطلع الإنسان للأسطورة في تلهف، ويطالعها مرات عديدة في تشوق، وهي على غرابتها وافتعالها تبعث في العقل نشاطا موفوراً، وتخلق في النفس متعة حبيبة. وقد رزقت الأسطورة في الغرب مكانة ممتازة، فوضعت لها الأسفار المتشعبة شارحة جامعة، وخدمتها الأقلام القوية محللة ممللة، فهذا باحث يستنبط منها المعنى الخفي، فإذا تعذر فهمه خلقه اختلافاً، وانتزعه انتزاعاً، وهذا روائي يلونها بأصباغ فاتنة، فيخلع عليها من خياله الرائع حلة زاهية، وهذا سمير يطرف بها أصحابه، فينفث في المجلس روحا مرحة تخلب الأفئدة، وتسرى عن النفوس، ولا كذلك الأسطورة العربية، فهي من قومها في هم ناصب، وشجو مبرح، فإذا تعرض لها من بني الضاد باحث أو قصصي أو سمير قوبل بكثير من الاستخفاف، وربما منى بمن يطعنه في ذوقه وعقله. لو دونت الأساطير العربية في سفر واف ورزقت من يتوفر على دراستها دراسة منتجة مركزة، لكان لنا منها - كما أعتقد - معين رائق، وكنز نادر ثمين.
ونصيب الجن من الأساطير عظيم موفور، فقد وضع المتقدمون عن القوم طرائف خالدة، يطالعها القارئ فيضطر اضطراراً إلى تكرارها وإعادتها، لأن الجن من العوالم الغيبة المجهولة، فكل نفس تتوق إلى استيضاح اسرارهم، والوقوف على أساليبهم في السعي والكدح وما من إنسان تنسم ريح الحياة إلا غذى في طفولته بعجائب مدهشة عن الجن، فردت على سمعه الغض أحاديثهم المتوهمة، ونوادرهم المتعددة، حتى إذا شب عن الطوق شبت معه هذه الطرائف، فتصور الجن أبطالا مغاوير يهابهم الإنس، ويذعنون لسلطانهم العتي، وأنت تسأل عن سبب هذا كله فلا تجد غير الأساطير القديمة، تلك التي نمت وترعرعت في نفوس العامة، حتى أصبحت بتوالي الزمن من حقائق ثابتة، يلقنها الصغير