للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[صور من الحياة]

للدكتور عبد العزيز برهام

(إن قول الحق لم يدع لي صديقاً)

(اكثم بن صيفي)

لا يجرح غير الحقيقة (مثل فرنسي)

جمعتني الصدفة بصديق قديم كنت آخذ عليه دائماً إخلاف المواعيد. زرته في مقر عمله فوجدت عنده عدداً عديداً من الزوار كلهم يرجوه في أن يشفع له عند فلان أو فلان في أمر كذا أو كيت، ورأيته يمنيهم جميعاً بقضاء حاجاتهم، فيخرجون من لدنه، وقد امتلأت نفوسهم بالآمال، وظنوا أنفسهم قاب قوسين أو أدنى من بلوغ المرام. ولكنهم ما كادوا يبرحون مكتبه حتى تنفس الصعداء، والتفت إليَّ وعلى شفتيه ابتسامة ثم قال: أفً لهؤلاء الناس! أيظنونني عبداً مسخراً لهم؟ ما أكثر ما هم عليه من بله! قلت: وماذا يحملك على أن تمنيهم كل هذه الأماني؟ قال: وماذا يضيرني، وقد بلغ الحمق بالناس أن يصدقوا كل ما يقال لهم؟ أو لا يسرك أن تراهم وقد خشعت أبصارهم أمامك، وانخفضت أصواتهم، وبدت عليهم الذلة والمسكنة، وهم يضرعون إليك بالرجاء؟ قلت: وأي لذة في هذا؟ قال: إن فيها لذة لا يشعر بها إلا من مر بمثل ما أمر به. قلت: أما آن لك أن ترعوي يا (نيرون) ومانه؟ قال: وأنت! أما آن لك أن تقصد في نصحك؟ قلت: بلى. ثم افترقنا.

انقضت ثلاثة أشهر لم أر فيها صديقي، ثم عدت إليه أزوره، ولشد ما كانت دهشتي عندما رأيت بين زواره فريقاً ممن رأيتهم عنده من قبل يطلبون شفاعته، وإذا به يعود فيعدهم ويمنيهم. لم أطق صبرا على رؤية هذه المسرحية الموجعة، فملت عليه بعد أن صرف واحداً منهم بالحسنى، وكنت أرى في مظهره ما يستاهل المساعدة: أتنوي حقاً قضاء حاجة هذا الرجل؟ فقال، وهو يهمس في أذني: وكيف لي بقضاء ما يطلب؟ إنه يطلب أن أعينه في وظيفة ممرض، وأنا لا أعرف من أطباء الصحة أحداً. قلت: فقيم إذن كل هذه الأماني المعسولة؟ قال: دعه، فستنجلي له الحقيقة يوماً ما، وسيريحني من تردده المملي عليَّ. قلت: ولماذا لا تصارحه بها؟ قال: يا لك من غر! أتريد أن أقول له إنني لا أعرف من أطباء

<<  <  ج:
ص:  >  >>