للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[متى يوجد منقذ العرب]

للآنسة فلك طرزي

يحلو لي أحياناً استجلاء بعض أمور الحياة ومحاولة تحليل بواعثها وأسبابها ساعة أخلو بنفسي في وحدة صامتة لا يكون رفيقي فيها إلاَّ قلبي وضميري، لأن الساعة التي يجالس المرء فيها ضميره وينفرد في ظلال التفكير والتأمل بعد ساعات يقضيها بين الناس تعد من أعظم ساعات الحياة نفعاً وأرفعها شأناً، وأكثرها فائدة. فكم من ضال مخطئ كانت الوحدة سبيل هدايته إلى الحق والصواب! وكم من نفائس علمية وفنية وأدبية لم يتحفنا بها رجال العلم والفن والأدب إلاَّ بعد ساعات بل أيام انفردوا خلالها بأنفسهم وضمائرهم، فإذا ما اطمأنوا إلى صمت هذه الوحدة وسكونها، أرسلوا أنفسهم على سجيتها فانطلقت من عقالها مجتازة الحدود، مخترقة بنفاذ بصيرتها صميم الحياة، تكشف الحجب عن حقائقها وترشدهم إلى كل موضع ومعنى من مواضعها ومعانيها، فيستجلون بدقة خيالهم صورها، ويدركون بقوة عبقريتهم دقائقها، فإذا ما انتهوا إلى الإدراك، عرضوا صور الحياة على اختلاف ألوانها ومعانيها، أمام أبصارنا واضحة صافية، فيها دقة الفن وفيها دقة الأداء، لأنهم حين استخرجوها من مكمنها وأخذوا في توضيحها، مزجوا ألوانها بألوان نفوسهم، وأضافوا إلى معانيها من معاني قلوبهم، وأفرغوا فيها الكثير من إحساسهم وشعورهم

وليس النضال الذي تخرج منه العبقرية إلى النصر بعد عراك طويل مستميت مع مختلف عوامل الحيرة والضعف التي تعتري نفس الفنان أحياناً بأصغر شأناً وأقل خطراً من نضال القائد الجبار الذي يقوم بتدريب فرقة من فرق الجيش في ساحات الحرب.

أجل يحلو لي اللجوء إلى الوحدة في ساعة من الساعات تحن نفسي فيها إلى الصمت وتشتهيه، لكي يتسنى لي عصر قلبي، فأستنزف منه قطرات من دم الصدق والإخلاص

لقد حدثتني نفسي أن تأخر الأمة العربية عامة والسورية خاصة ناتج عن سبب خلوها من النهضة الفكرية أو بالأصح من التفكير الصحيح المستقيم الذي هو بمثابة مشعل ينفذ بحامله إلى خفايا حياة أمته ويتغلغل به في جوانبها وزواياه، ليطلعه على مختلف شؤونها ونقائضها، ثم ليقوده بعد النفاذ والتغلغل إلى تشخيص الداء الأساسي الذي تشكو بسببه علتها ومرضها

<<  <  ج:
ص:  >  >>