خذ دليل ذلك أيها القارئ، وبرهانه الساطع من تاريخ النهضة العربية في غابر العصور، وتأمل ضخامة الدرس الذي ألفته الأمة العربية على الإنسانية جمعاء، ثم تأمل في سرعة الانقلاب الذي حدث في تلك الجزيرة المحاطة بالجدب والقحط من كل نواحيها، فإذا بها تصبح في مدة من الزمن لم تبلغ نصف قرن ينبوعاً صافياً يؤمه كل ظامئ إلى معرفة الحق، ليرتشف من مناهله ماء الثقة والأيمان
أنظر كيف أن قريشاً لم تنهض من الجهل الذي كانت واقعة فيه ولم ترتفع من الدرك الذي انحطت إليه، إلا حين خرج النبي المفكر البصير، فبدد جهلها بآيات الكتاب المبين الذي حملته يمينه، وأيقظ في قلوبها الحق والأيمان مشعل الحقيقة الذي كان نوره ينبعث من بين جوانحه فإذا به يجري عجباً، وإذا به يغير حالاً بحال، ويبدل أموراً بأمور، فتمسي قريش التي كانت من قبل تغط في غياهب الجهل والشرك، كعبة المدينة والحق، والمنارة التي ترشد الإنسانية إلى سبيلهما
ثم انظر إلينا كيف نسير متلكئين في طريق نهضتنا الفتية ونحن بعد بين هجعة ويقظة. . . بين ظلام الليل ونور النهار، نحاول في سبيل إيجاد الحل الموافق لقضيتنا المعقدة نتبع خطوات الأمم التي أحدثت الحرب العظمى تغيراً في نظمها ومناهجها الدولي، ناسين أو متناسين أن للعوامل الإقليمية والتاريخية والنفسية شأناً كبيراً وأثراً بعيداً في اختيار نوع من أنواع الأنظمة الدولية المختلفة الذي يلائم أمة ولا يلائم غيرها، إذ هي الدعائم الأولى، بل القاعدة الأساسية التي يشيد عليها مؤسسو النهضات القومية بناء هذه القومية.
فلا النظام الشيوعي ولا النازي ولا النظام الفاشستي يلائم الأمة العربية: هي بحاجة إلى نظام خاص يكون مقتبساً من تاريخها، ومستمداً من قوة الحاضر وواقعه.
القضية العربية تشكو خلوها من عالم مدقق حصيف يدرسها على ضوء المنطق، درساً عميقاً مستفيضاً، كما درس موسليني القضية الإيطالية، وهتلر الألمانية، وكما درس من قبلهما الفيلسوف الاجتماعي مونتسكيو القضية الفرنسية فكان كتاب (روح الشرائع) الذي أخرجه بعد درس النظام الدولي الأنكليزي، درساً مشبعاً بروح البحث والتمحيص، ومشعلاً استنار به الفرنسيون واسترشدوا بقوانينه وشرائعه، فجاء مطابقاً لأهوائهم، ملائماً لرغبائهم، محاكياً ميولهم محققاً آمالهم وأمانيهم.