دخل الشاب مستأذنا؛ فخلع طربوشه، وألقى عصاه، ثم جلس مبهوراًتتتابع أنفاسه، ويزدحم الكلام على شفتيه، لا يكاد يبين معنى من معنى، أو يستقر خاطره على شيء؛ فما استبنت إلا قوله يختتم الحديث بكلمات متقطعة منهوكة:(نعم، وقعت المشكلة! وقعت المشكلة! فأين أجد الخلاص؟)، وكنت وقفت عند قول أستاذنا الرافعي في مقاله بمجلة (الرسالة الغراء)(ووقعت المشكلة. . .) فعرفت ما يعني صاحبي، وهو كان صاحب هذا الحديث، ومحور رحاه، على أن الرحى لم تطحن إلا قلبه هو، وكان قد كتب إلى أستاذنا يطلب الخلاص، فأين رأى الخلاص من نصح طبيبه. . ما أمر الدواء لو يجدي، وما أقسى الطبيب. .! وقلت في نفسي:(وا أسفاه لهذا الشاب!! أثقل عليه أن صفحة من صفحات قلبه قد نشرت، وهو كان يحمل الهم كله في صدره فما يثقل عليه؟ ويل للشاب من الشيخ، فذلك يتكلم بوجدانه وعاطفته وقلبه، وذاك بعقله وتجاربه وفلسفته. فأين يلتقيان؟)
ثم استوى الشاب في مجلسه وقد اطمأن قليلا وسرى عنه بعض ما كان فيه من اضطراب وقلق، ثم قال:(أترى ما فعل بي أستاذنا؟ لقد كنت - بادئ الرأي - في عينه مهذبا، متعلما. ذا رأي وبصر؛ فما هي إلا دورة الكلام فإذا أنا ساقط، مرذول، ضعيف الرأي! أفترى على الشاب من حرج أن يحلق في سمائه، يفتش عن قلبه الطائر حتى يرى ضالته. .؟ والطائر الغريد - يا صديقي - ينقب عن أنثاه التي تساكنه عشه، وترعى أفراخه. أفيكون لأبيه أن ينتقي له أنثاه من بين عصافير الغاب، أم تراه هو. .! أو تحسبها هي تستقر إليه إذا لم تر في ظل جناحه الرأفة والحنان والحب! أرأيت يا صديقي؟ أرأيت هذا الطير، يطير عن أنثاه إلى غيرها، وهو نفسه الذي تعلقها، وفتنه ما فيها من أنوثة وجمال؛ وهو نفسه الذي اختارها لتشاركه حياة الطير، وزقها وزقته، وبادلها وبادلته الحب والحنان؛ أم كان ينتقص من حريته، ويسلب رأيه لو كان تعلم. . .؟
إن الذي تعلم منا، قد تعلم ليمسك بمفتاح القيد الذي ضمت به إحدى رجليه إلى الأخرى، وشدت إحدى يديه إلى الثانية، وماذا يكون وراء العلم إن لم يكن هذا؟. وإذا كان الرجل يقول: (هذا أبي، وتلك أمي، وهؤلاء أهلي) لينتسب إليهم، أفيخرج عن أهله إن هو قال: