للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[٢ - أدب المجون. . .]

أدب المجون يجوز إذن أن يقال، ولكن لا يجوز أبداً أن يعلن. والرقيب على هذا الأدب ضمير المنشئ وكرامة القارئ. فمادام للمنشئ ضمير يحييه الدين القويم والخلق الكريم فإنه يتكرم عن الهبوط إلى حضيض القوادين الذين يزينون الفحش، والمطاردين الذين يروجون الحشيش. وما دام للقارئ كرامة يقويها الحس اللطيف الشريف، فإنه يتنزه عن سماع الهجر ورؤية المنكر. والناس في الشرق والغرب، وفي القديم والحديث، كانوا كذلك قبل أن تقوم قيامة الحرب العالمية التي أهلكت فيما أهلكت تراث الإنسانية والمدنية من كريم الشمائل وحر الخلال.

هتك بشار في بعض شعره ستر الحشمة فنقم الناس منه ذلك وتمنوا موته صوناً للعذارى وغيره من المخدرات، وقال مالك بن دينار: (ما شيء أدعى لأهل هذه المدينة إلى الفسق من أشعار هذا الأعمى الملحد) وانتهى المجون ببشار إلى أن أمر به الخليفة المهدي فضرب بالسوط حتى هلك. واستهتر أبو نواس في الغزل واسترسل في الفجور حتى حبسه الخليفة الأمين، ولم يكد يخرج من ظلام الحبس، حتى دخل في ظلام الرمس.

وألف أوفيد الشاعر الروماني كتابه (فن الحب ' , فرأى فيه القيصر أغسطس فساداً للناس فنفى المؤلف في سرماسيا وقال لطيباريوس حين سأله العفو عنه: (لا أنكر أن أوفيد شاعر ميزته الآلهة بالذكاء البارع والقريحة النافذة، ولكنه أفسد بكتابه شباب روما فحق عليه أن يموت في سجن سرماسيا) وكتب فلوبير القصصي الفرنسي قصته (مدام بوفاري) فوجد الناس في أسلوبها خروجاً عن مذهب الحياء فرفعوا أمره إلى القضاء فحكم عليه بالكف عن معالجة هذا النوع من القصص.

ونظم بودلير الشاعر الفرنسي ديوانه (أزهار الشر) فثار على جرأته أهل الحفاظ والنخوة وساقوه إلى القضاء فحكم عليه بغرامة قدرها ثلاثمائة فرنك وإعدام ست قصائد من مطولاته.

فلما زلزل الله الأرض بالحربين العالميتين انقلبت الأوضاع، وتغيرت الطباع، واختلفت المقاييس، وبرد الدم الحار، وبلد الحس المرهف، وغلظ الجلد الرقيق، فشاع الإغضاء، وساغ البذاء، وقلت المبالاة، وسكنت الحمية، حتى صار الفجور ديناً له أنبياؤه ومبشروه؛ فمن الأنبياء فرويد وجيت وسارتر، ومن المبشرين لورنس وفكتور مرجريت. أما الأتباع

<<  <  ج:
ص:  >  >>