كان هذا منذ أكثر من ثلاثين عاماً، وكنت يومئذ مدرساً للترجمة في المدرسة السعيدية الثانوية، وأقبل الامتحان العام - للبكالوريا والكفاءة - وعقدت له لجان شتى عينت، كغيري، مراقباً أو ملاحظاً في إحداها، وكان أخي طالباً، وعليه أن يؤدي الامتحان في إحدى هذه اللجان.
واتفق أن دعيت أسرتنا كلها إلى عرس قريبٍ لنا، بيته مجاور لبيت صهري، فذهبنا مغتبطين جذلين، ولكني كنت في قرارة نفسي مشفقاً من سهر الليل، وكيف يؤدي أخي امتحانه وهو لم ينم؟ وكيف أقوى أنا على المراقبة والكرى مرق في عيني؟ غير أني لم أر لي حيلة، فتركت الأمر للمقادير. . .
وألفيت في بيت قريبنا هذا نفراً من الإخوان، فانتحيت بهم ناحية من الحديقة، وجلسنا بين الخضرة والماء، نسمر ونضحك، والعريس وأبوه يلحان علينا أن نخرج فنكون مع الجمع الحاشد لنسمع غناء الشيخ يوسف المنيلاوي - بلبل زمانه - ونحن نأبى كل الإباء أن نتزحزح عن مكاننا لجماله، ونطلب أن يقدم إلينا الطعام، حيث كنا بلا كلفة.
وجاء - قبل الطعام - رجل من أهل طنطا لا أعرفه، يرتدي جبة وقفطاناً وطربوشاً مثل طرابيشنا نحن (الأفندية)، وعليه لفة مزركشة، فحيا وقعد، وكانت له معرفة ببعض الإخوان، فصفق أحدهم ودعا بالقهوة - قهوة البن - فلما أقبل الخادم بإبريقها في يد، والفناجين في يد، وصب من ذاك في هذه وناولنا، مال أحد الإخوان على الرجل الطنطاوي وسأله:(معك خلطة؟)
ولم أكن أعرف ما (الخلطة) يومئذ، فسألت عنها، فقيل لي: إنها عنبر ومسك. . . ولا أدري ماذا أيضاً، قطرات منها تطيب بها القهوة؛ فقلت: هاتوا إذن من هذا المسك والعنبر، فأخرج الرجل زجاجة صغيرة، ومددنا أيدينا بالفناجين، فجعل يصب قطرات لكل واحد منا، فنشكره. . .
وكنا جلوساً على الحشايا والوسائد فوق السجادة على الخضرة، فحسوت حسوة من فنجانتي، فكرهت طعمها على لساني، فقد كانت كلها زيتاً ثقيلا - أو هكذا خيل إلي -