فأرقت ما بقي من الفنجانة على الخضرة، وصحت بالرجل الطنطاوي:
(ما هذا يا شيخ السوء؟ متى كان العنبر والمسك شراً من زيت الخروع؟)
ومضمضت فمي بالماء، وجيء بالطعام، فأقبلنا عليه كأن لنا عاماً ما طعمنا فيه شيئاً، وأكلنا ما لا يحسب الحاسب، وما كنت أنهض عن المائدة حتى شعرت بكظة مزعجة، فذهبت أتمشى بين الشجر، ولكني أحسست بدوار، فعدت إلى مكاني وملت بشق على الأرض، فإذا بها تدور كرأسي، وترقص أيضاً، وتعلو بي وتهبط، ففزعت، وانتفضت قائماً، وقد أيقنت أني لا محالة ميت ما لم أفرغ ما في جوفي، وعبثاً حاولت أن أفعل ذلك، على فرط اجتهادي، فجزعت، ولم يبقى عندي شك في أن الذي صبه لنا الرجل الطنطاوي على القهوة من هذه (الخلطة)، ليس إلا نوعاً من المخدرات (كالمنزول)، فآليت لأخنقه قبل أن أموت! وهممت به، وأنا كالمجنون، فحالوا بيني وبينه، وصرفوه، بالتي هي أحسن، أو بالتي هي أخشن - لا أدري - فما أخذته عيني بعد ذلك!
وجاءوني بليمون زعموا أن عصيره يفسد فعل هذه (الخلطة) فلم أنتظر حتى يعصروه، وخطفته من أيديهم، وجعلت آكله بجلده، ثم قصدت إلى باب الحديقة وأشرفت على حشد المدعوين وتخت الشيخ يوسف، وقلت أتسلى بالنظر والسماع، ولكني كنت لا أرى شيئاً واضحاً، وكان (قوس) الكمان يبدو لي كأنه يرسم في الجو دوائر ومربعات ومستطيلات، وكان صوت الشيخ يوسف كالطبل في أذني. فعدت أدراجي وانطرحت على الأرض، وكنت أغيب عن وعيي ثم أفيق، والقوم حولي كأنهم أصنام، لا ينطقون ولا يتحركون. فأدركت أنهم مثلي أو أشر منى حالا، سوى أنهم أقوى أجساماً أو أقدر على الاحتمال، أو لعلهم اعتادوا هذه (الخلطة) فهم لا يتأثرون بها كما تأثرت!
ودعوت أحدهم - وكان أهل بيته مدعوين في العرس فالبيت فارغ - أن يذهب بي إلى داره، وأن يبعث في طلب طبيب، فهز رأسه وبقى حيث هو، وعاودني الإغماء لحظة، فلما أفقت ورأيت أني باق حيث كنت، وتبينت أن لا أمل في معونة من هؤلاء القوم، أشرت إلى خادم لمحته خارجاً وطلبت أن يجيئني (بخلطة) أخرى: سكر وخل. . . فاستغرب ولكنه جاءني بما أمرت، فأذبت السكر في الماء، وخلطته بالخل، وشربت وقمت أعدو إلى ركن في الحديقة، فكان الفرج، فقد اضطربت نفسي ورميت ما فيها يتبع بعضه بعضاً،