كتبت ألي أيها الأخ الكريم تسألني (لماذا صمتَّ بعد تغريد، ونضبت بعد فيض، وسكنت بعد المرح، واكتأبت بعد الفرح؟ وما هذا الوجوم والإطراق بعد التهلل والإشراق؟ أين قلبك الهدار، وقلمك المكثار؟ وأين شعرك الشاعر، ونظمك الساحر؟ ليت شعري، وقد أمكنك القول، لم لا تقول الشعر؟)
يا أخي بماذا اجيبك؟ لقيت الحياة مبتسما، ونشأت مرنما، أطالع تباشير الصباح مرحا كالأطيار، مترنحا مع الأشجار، تروقني ألوان الأفق، وتدهشني طلعة ذكاء في مواكب الضياء، أراقب الأضواء، في الصباح والامساء، وأساير الظلال، بالغدو والآصال. وأخلو إلى القمر أشرب ضياءه، وأحس في نفسي صفاءه، وأقول:
البر والبحر ذوبٌ من سنا قمر ... تردد الطرف فيه فهو حيران
وأتأمل الأزهار في شعاعه، واقبِّل الورد في لآلائه وأساير النيل أجري مع مائه. واضطرب مع أمواجه، وأقف على البحر فرحا بآذيِّه المهتاج، معجبا بسلاسل الأمواج، أرقب العراك المتواصل، بين الماء والساحل.
وكم طربت لزقزقة العصافير في نور الصباح، وتنزيها على متون الرياح، وضحكت لبكور الغراب، سابحا في الضباب.
وكم فتنني الوجه الجميل والخلق النبيل فقلت:
في كل حسن أرى سراً يجاذبني ... نفسي، ومالي بهذا السر عرفان
أرى الجمال فتطبعه زجاجة العين على صفحة القلب فاذا هو على لساني وقلمي. فانطلق قائلا معجبا. ومنشداً مطرباً.
وكل شيء يبعث الأمل، ويحدو إلى العمل، وكأن القضاء طوع الخيال، وليس في الدنيا محال. وكأن الإنسان يستطيع أن ينحت الجبال بقلمه، وينزف البحر بفمه. والمستقبل وضاء، وكل ما في العالم ضياء.
ثم نفذ إلى الفكر إلى ما وراء الظاهر، وتطلع إلى ما في السرائر، وجاوز القشر إلى اللباب، وخاض الضحضاح إلى العباب، وكشف المجاز عن الحقيقة، وطالع ضمائر