للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[التاريخ في سير أبطاله]

مازيني

(رسول الحرية إلى قومه، المجاهد الذي أبلى في جهاده مثل

بلاء الأنبياء)

للأستاذ محمود الخفيف

- ٥ -

هكذا كانت حياة مازيني في لندن منذ رحل إليها عام ١٨٣٧ حياة شقاء لم يكن يقوى على احتماله إلا من كان له مثل إيمانه، وظلت هذه حاله مدة أربع سنوات طويلة؛ وفي عام ١٨٤١ لانت الأقدار له بعض اللين، إذ أخذت يد الصداقة تخفف عنه بعض آلام الغربة والوحدة، وكان أكثر أصدقائه الجدد من الإنجليز، وقد حلوا في قلبه محل أصدقائه الأقدمين الذين نسوه وإن لم ينسهم والذين تركوه في غربته، وأنه ليغترب من أجل قضيتهم ويعاني من الآلام ما يعاني في سبيل تحريرهم.

وأعجب مازيني بأصدقائه الإنجليز وأعجبوا به، وكان يرى في صداقة هؤلاء القوم له ما يزيده تعلقاً بهم؛ فهو يحب إخلاصهم وصراحتهم ورقة آدابهم وظروف أحاديثهم؛ وود مازيني لو كان لديه من المال ما يكفي لأن يشتري الملابس التي تليق به ويدفع منه أجر تنقله من جهة إلى جهة ليتسنى له أن يكثر من الأصدقاء في هذا البلد العظيم، وكم آلمه وأحزنه فقره في هذه الغربة الطويلة

وكان ممن اتصلت بينه بينهم أسباب المودة والحب الفيلسوف الإنجليزي الشهير كارليل، فلقد أعجب كارليل بما انجلى لعينه البصيرة من معاني العظمة في نفس هذا المجاهد الغريب، وكانت قد ترامت إليه من قبل أنباء حركاته في سبيل بلاده؛ وكذلك كانت تربط قلبيهما دعوة كليهما إلى العناية بالجانب الروحي من حياة الإنسان ومحاربة النفعية والأنانية، ثم ذلك الحماس الذي كان يبث الحرارة والحيوية في كل ما يكتبان. وكثيراً ما كان مازيني يزور صاحبه في منزله، وقد اتصلت أسباب المودة كذلك بينه وبين زوج الفيلسوف الكبير، وأعجبت بخلاله وأكبرت مبادئه، حتى لقد كانت تجادل زوجها غالباً

<<  <  ج:
ص:  >  >>