كان (ويندل هولمز) يقول - ولا يزال، على الأقل في كتابه فقد شبع موتاً من زمان - إن الإنسان في حقيقته ثلاثة؛ وإن (أحمد) - مثلاً - توجد منه ثلاث صور: فهنا احمد كما يعتقد هو في نفسه، وهناك احمد ثان كما هو في رأي محمد، وهناك احمد ثالث هو الذي يتكون من اعتقاده في رأي محمد فيه، وعلى هذا القياس يمكن أن يكون هناك ألف احمد أو أكثر، ولا يكون لأحمد الحقيقي وجود في الواقع، لأنه ضائع بين شخصياته المتعددة، ولأنه هو نفسه قلما يعرف حقيقة نفسه فكيف بمعرفة غيره؟
كنت أفكر في هذا الذي قاله ويندل هولمز لأن صديقاً لي كان يبدو لي كأنه طائفة من النقائض جُمعت وخُلط بعضها ببعض وعُجن التراب فيها بالنار، ثم صيغ من هذا المزيج المتنافر وغيره، مما يخفى علينا، إنسان نعرفه باسمه، ولا نعرف كنهه وحقيقته؛ وابتسمت وقد خطر لي أنه كالمهربات التي يجد رجال الجمارك مكتوباً على صناديقها:(بطاطس) أو (زيتون) ويفتحونها فإذا البطاطس أو الزيتون هناك، ولكن حشوه حشيش أو رصاص أو غير ذلك من المحضورات! وكنت أعجب له هل يدرك، يا ترى، أن له بواطن وظواهر مختلفات، وأنه أشخاص كثر لا شخص واحد، وأن في أعماقه تيارات شتى تتلاقى لتتدافع لا لتتساير؟ فسألته عن ذلك فقال:(إنك لست أقل مني تعدداً، أنت أيضاً لك جوانب كثيرة) فبينت له أني لا أنتقد ولا أعيب، وإنما أريد أن أفهم، فكان مما سمعته منه:(إنك أنت أيضاً لك سيرة في حياتك العامة، وسيرة أخرى في حياتك الخاصة، ولك رأي تذيعه ورأي تضمره، وشخصية تكشف عنها وأخرى تسترها، ونزعة تبديها ونزعة تحجبها؛ أو لعلك لا تتعمد شيئاً من ذلك ولا تفطن إليه ولا تدريه ولكنك على التحقيق تغير جلدك في اليوم الواحد أكثر من مرة)
قلت:(إذن ما حقيقة الإنسان؟)
قال:(حقيقته يعلمها الذي خلقه وركبه فيما شاء من الصور)
قلت: (قد تؤدي هذه الحيرة إلى إنكار المرء لنفسه. أين أنا بين هذه الصور العديدة