إذا قلت إن القوة التي في فلسطين لليهود، فكأنما قلت إن للأرنب دولة في غاب الأسود! ومن ذا الذي يصدق خبراً تناصرت على تكذيبه أدلة الشريعة والطبيعة والعِيان؟ فالقرآن يخبر أن الله ضرب على اليهود الذلة والمسكنة بما عصوا وعدَوا؛ فمن يزعمُ الآن أن مُلك إسرائيل يعود، فقد كذب القرآن وصدَّق التلمود. والطبيعة تشهد أن الغريزة تفقد شهوتها بالتعطيل، كما يفقد العضو وظيفته بالترك: فغريزة الافتراس في الحيوان ضعفت في الإنسان بالإهمال، على مدى الحقب الطوال، حتى أصبحت أثراً في العض ورمزاً في التقبيل. والأظفار الخمسة في رِجل البهيم تطاولت عليها الدهور وهي تتسلق وتنشب، فاعتراها الضمور والذبول حتى صارت أثراً تاريخياً وراء الحافر أو الظلف. واليهود منذ فرق شملهم (بختنصر)، وبتَّ حبلهم (أدريان) أخذت تضعف فيهم غريزة الدفاع عن النفس بالقوة حتى ماتت في مدى خمسة وعشرين قرناً لم يدافعوا عن حياتهم فيها إلا بخداع الثعلب وتملق الكلب وتلون الحرباء. فمن أين لهم الأكف التي تحمل السلاح، والقلوب التي ترفد الأيدي؟ أما العيان - وهو مصداق النقل وشاهد العقل - فيثبت أن اليهود ثعابين من غير سم، وبراكين من غير نار. على رأيت يهودياً دخل في عنف وإن هان، أو جرؤ على ظلم وإن قل؟ أنا نفسي شهدت لبعضهم منظراً لا أنساه حتى أموت، ولا أذكره إلا ضحكت: قضيت الصيف في بغداد سنة ١٩٣٠، والصيف في بغداد لفحات من جهنم بالنهار، ونفحات من الفردوس بالليل. فالبغداديون يميتون أيامه في السراديب، ويحيون لياليه على دجلة. ففي ليلة قمراء من هذه الليالي ركبتُ أنا وصديقي (الحسنى) زورقاً من زوارق النزهة، فيه السمك (المسجوف) والفاكهة الطيبة. وسار بنا الزورق يتهادى حتى توسط النهر، فوقع في أسماعنا من ضفاف الكرخ غناء وعزف. فقلنا للنوتي: اتبع طريق هذا الزورق اللاهي. فقال في لهجة الغاضب الأنوف: ولماذا نتبع نحن ولا يتبعون هم؟ هؤلاء يهود! ولو شئتم أتيتكم بالمغنى والعازف! فدهشت ولم يدهش صديقي. وحاذى المركب المركب، فإذا رهط من شباب اليهود لا يقلون عن العشرة، قد انتظموا عقدين على جاني المركب، وفي الوسط مائدة مستطيلة عليها الطعام والشراب والزهر، وفي الصدر مغنية حسناء تضرب على العود، وكهل بدين ينقر على القانون، وشاب أنيق يعزف على الكمان. فلما رأونا سكنت الحركات، وخشعت الأصوات، وتجمعت الأكتاف، وتدلت الأطراف،