يتحمس في كل شيء: في رأيه، في أشارته، في نطقه، في عبارته، في جلسته، في حركته، فيما يختار من ألوان ملبسه، في ضحكته؛ ولابد أنه قياساً على كل هذا متحمس كذلك في بكائه. وكم تمنيت - على شدة كراهيتي للبكاء - ولو رأيته يبكي لأرى مبلغ حماسته في دمعته!
قارب الثلاثين أو جاوزها قليلاً. حديث العهد بشهادة من شهادات إحدى جامعتينا فهو بها معتز مغتبط متحمس في اعتزازه واغتباطه. ولست أجد في ذلك ما يلام عليه فهذا ما يفعله كثيرون غيره ممن يظفرون بشهادات جامعية يستطيعون بعدها أن يعملوا ليظفروا بالألقاب العلمية الضخمة، ومن منهم لا يحب أن يصبح دكتوراً مرموق المكانة عظيم الخطر؟
وصاحبنا الذي اختلس منظاري النظر إليه ساعة، وحملقت فيه عيناي أكثر من مرة من شدة إعجابي به، ولست أقول من فرط تعجبي منه، قد عقد النية فيما علمت من أنبائه على أن يكون دكتوراً مهما كلفه ذلك من جهد. على أنني لا أذكر أني رأيت فيمن يحملون هذا اللقب العظيم من هو أشد ذهاباً بنفسه من صاحبنا هذا، ولا من يصطنع لهجة الأستاذية والضلاعة، ولا من يقطع بالرأي في سرعة ويقين، ولا من يقذف بالأحكام العريضة في سخاء ويسر، كما يفعل هذا الذي لم يصبح دكتوراً بعد، وهذا هو سر إعجابي به، فما أحسب إلا أنه غنى بذلك كل الغنى عن جميع الألقاب كل وصف عنده، سواء وصف ما يرضيه أو وصف ما يسخطه، يأتي على وزن أفعل كما يقول النحاة، فهذا أحسن مؤلف ظهر حتى اليوم، وفلان أكبر عالم في البلد، وهذا أجهل رجل بكيت وكيت من المسائل، وهذه أحسن خطة؛ وهكذا دائماً على وزن أفعل النحاة، أو على طريقة أفعل التجار في مثل قولهم أحسن صنف وأفخم قماش وأجمل لون وأرخص سعر!
وهو على أهبة دائماً لأن يعارضك فيما تبدي من رأي. وليته يقارعك حجة بحجة، أو يعنى حتى بمجرد الاستماع إلى أن تتم رأيك، فإنك ما تكاد تشير إلى فكرة حتى تراه ينهال عليك بما حفظ من مسائل، فيورد طائفة مختلفة من الآراء وليس يهمه إن كانت تتصل من قريب أو من بعيد بما يدور الكلام حوله، وإنما يكفيه أنه هكذا قرأها، وإنه ليوردها أحياناً مبتورة