أخذت نوافح الخريف الأولى تتنفس منذ أسبوع على وجه المنصورة رخية ندية؛ وللخريف على شُطئان النيل الشرقي وهو في عنفوان الفيضان سحر لا يبلغ كنهه الشعور ولا تعبر عن تأثيره اللغة. فللسماء اللازوردية على صفحاته ألوان وأحوال، وللسحب الرقاق البيض على حواشيه أطياف وأظلال، ولشمس الأصيل على مويجاته المرتعشات الحمر انكسار يخطف البصر، كأنما ذاب قرص الشمس فهو يتدفق من السماء على الماء، أو انبجست على النهر من الأفق الغربي عين من ذائب الماس لم يدخل علمها في الكيمياء. وللأبكار والعشايا أنسام طيبة الشميم كأنما تنقل عن رياض الفردوس؛ والطبيعة الريفية عطار حاذق يعرف كيف يفتق الطيب من سنابل الرز وأمطار الذرة وأقناء النخيل ونوار التيل ولوز القطن ومما ينبت على حفافي الترع والطرق من أشتات الريحان والبقل. وللمنصوريين والدقهليين على الجملة صباحة ووداعة يزيدهما الخريف حلاوة وشاعرية. وإن بينهم وبين طبيعتهم المشرقة الجميلة من التآلف والتجاوب ما لا تجده بين الناس والطبيعة في مكان آخر. والناظر في أخلاق هذا الإقليم ومزاياه يرى أن مثله بين أقاليم مصر كمثل أوربا بين قارات الأرض: تميز كما تميزت بالنبوغ والمدنية والجمال، وتألف تاريخه القديم والحديث من فصول وضاءة في الوطنية والعبقرية والبطولة.
ففي الحروب الصليبية كان للمنصورة وإقليمها شرف القضاء على حملتها الأخيرة؛ وكان الجيش المصري قد ارتد إليها مهزوماً؛ وامتحنه القدر القاسي فمات ملكه الصالح وقتل قائده فخر الدين، فانتشر الأمر على جنوده، واستبهم الرأي على قواده؛ وكاد الرجاء من نجاة مصر ينقطع لولا أن نهض الظاهر بيبرس بالمماليك ونهض معه أهل المنصورة، فأقاموا المتاريس في الطرق وجعلوا من دورهم قلاعاً يرمون من نوافذها الفرنسيين بالأحجار والقذائف، حتى قتلوا الكنت القائد أرتوا، واستأصلوا فرقته ومزقوا الفرق الأخرى؛ ثم كانت الهزيمة الحاسمة في فارسكور حيث أبيد الجيش العدو وأسر الملك القديس سجينُ بيت ابن لقمان ومضروب الطواشي صبيح.
وفي الغزوة النابوليونية كان للمنصورة وإقليمها فضل الجهاد السابق الصادق، فقد ثاروا يوم