للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[المادة لا تنعدم]

للأستاذ احمد أمين

هكذا يقول علماء الكيمياء ويشرحون قولهم، ويبرهنون عليه. ويرون أن المادة تتغير وتتحول وتعود إلى عناصرها الأولى ولكن لا تنعدم، والعالم كله كساقية جحا، تغرف من البحر وتصب في البحر، فقد يحترق هذا المكتب الذي أمامي لا قدر الله، ولكنه سوف لا ينعدم، بل يتحلل إلى عوامله الأولية. وسيتغذى منها النبات ويتكون منها خشب جديد، قد يكون مكتب المستقبل.

قال الكميائيون ذلك، وقصروا قولهم على المادة لأنها مادة عملهم وموضع تجاربهم.

ولو عرض لهذا فيلسوف واسع النظر غير محدود البحث لقال (لا شيء ينعدم)

إن الأعمال من خير وشر لا تنعدم، بل تنمو وتتحول، وتؤثر وتتأثر، ولكن على كل حال لا تنعدم، إن كذبة واحدة تكذبها على أولادك في بيتك، ومن غير أن تعيرها اهتماماً لا تنعدم، فسوف تبيض وتفرخ وتنتج كثيراً من أمثالها، وسوف يكذب أولادك وستخرج الكذبة من حجرتك إلى سائر بيتك، وستخرج من بيتك إلى المدرسة، وستخرج من المدرسة إلى مصالح الناس ومعاملتهم فكيف تنعدم

قد يدق العمل ويصغر حتى لا تراه أعيننا. ولا تسمعه آذاننا، ولا تشعر به نفوسنا، ولكنه موجود، يعمل عمله في هذا الوجود، ويفعل وينفعل، ويتسع نطاقه، ويعمل في دوائر مختلفة قد لا تخطر بالبال، وما أظنك تجهل أن حصاة ترميها في البحر الأبيض المتوسط لابد أن يتأثر بها المحيط الأطلنطي، وان لم تر ذلك عيوننا. والدليل على ذلك بديهي، فلو كبرت هذه الحصاة ملايين المرات، أفلا تؤمن بهذا الأثر؟ إذن فآمن بأن هذه من تلك وعلى نسبتها ومقدار حجمها، وجزء من ألف من الشعرة له ظل حقيقي وان لم تره عيوننا، ولولا ذلك لما كان لألف ألف شعرة ظل، ولما كان لثوبك الذي تلبسه ظل

وعملك الخير مهما صغر له أثره في أمتك مهما صغر، أعلنته أو أسررته، نجحت فيه أو فشلت، علم الناس أنك مصدره أو لم يعلموا، وهل مقياس رقى الأمة وانحطاطها إلا عبارة عن عملية حسابية مركبة من جمع وطرح؟ جمع لما صدر منها من حسنات، وطرح لما صدر من سيئات - لتكن هذه العملية أشد ما تكون من صعوبة، ولتحتج إلى ما شئت من

<<  <  ج:
ص:  >  >>