كان كرِعْدة الحمًّى، أو كرجفْة الزلزال، أخذ هذا البلد المسكين زهاء أربع سنين، فكدًّر من طبعه، وغيَّر من وضعه، وبدد من نظامه!
هل تخيلت الجنة وقد اتسق في ظلالها الخفض، واطَّرد في مياهها النعيم، وانبلج في أجوائها الأنس، وانبسط على أرجائها السلام، يقتحمها شياطين الجحيم عَنوة، فيجعلون ظلها حروراً، وماءها مُهْلاً، وأنسها وحشة، وسلامها فتنة؟ ذلك مثل النيل وواديه قبل هذا العهد الذميم وبعده!
كانت البلاد تسير مع الزمن إلى الأمام، وتتدرج مع الطبيعة في النمو، وتتوثب مع الحق على العدو، فنجم فيها ناجم من الشر اعترض طريقها اعتراض اللص، ثم أثار في وجوهها الرعب فانكفأت إلى الخلف، وامتحن قلوبها بالبطش ففزعت إلى الصبر، وسلط على مُترفيها المُنى فقروا على الرِّيب؛ وراح الذئب المقَنَّع أو الطاغية الكاذب يعيث في كل ديوان، ويفتك في كل مكان، ويخْتِل في كل جماعة، حتى عطَّل سلطة الأمة، وأبطل سطوة القانون، وقوض ركن الفضيلة.
تناصرت أبالسة الظلم والظلام على مشاعر هذه الأمة فتركوها من الدسائس والهواجس والأوهام في مثل الدجى الحالك، تقتل نفوسها ويقولون إنها تجاهد، وتركب رءوسها ويعلنون أنها تسير، وتضطرب في شقائها اضطراب الذبيح ويوهمون أنها تحيا؛ ثم رصدوا خزانة الدولة وجنودها وشُرَطَها وموظفيها لإقرار الشعب على الضيم، ورياضته على الاستكانة، فنسى الجندي أنه حشد لمدافعة العداة، والشُّرْطي أنه رُصد لمراقبة الجناة، والموظف أنه أُعِدَّ لتصريف الأمور، ووقفوا جهودهم على قطع هذا الشارع فلا يعبره عابر، وحصر هذا البيت فلا يزوره زائر، وتعهُّدِ هذا المحالف فلا يُخْلفُه بِر، وتَعقّب ذلك المخالف فلا يفُلته أذى!!
ثم انتشر الوعيد والوعد في جنبات النفوس يستنزلانها عن الخُلق، ويفتنانها عن العقيدة، ويغريانها بالعدالة، ويحرضانها على الصداقة، حتى اشتبه الوفاء، واتُّهم القضاء، ومرضت الأهواء، وانقطعت الأسباب بين المرء وصاحبه، وانفرجت الحال بين الرجل وواجبه؛ وكل ذلك لتُثْرى جماعة ويتسلط فرْد!!
لا للهِ ولا للوطن كانت هذه المِحنة! إنما كانت نزوة رَعْناء من بغي الإنسان على الإنسان!