للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

والناس لا يزالون كما كانوا في الدهر الأول يسرقون ليأكلوا، ويقتلون ليعيشوا، ويستعبدون ليسودوا، ويستبدون ليحكموا، لا يحمي الفردَ من الفرد قانون، ولا يعصم الأمةَ من الأمة معاهدة! أما الدين والمدنية والعلم والأدب والفن والأنظمة فغطاء ذهبي على الناب، وطلاء وردي على المخلب!

على أن ضعف الشعوب خَدَّاع، لأنه قُوىً متفرقة في نفوس متفرقة، فإذا ما تجمَّعت ذات مرة حول القوة الزعيمة الملهِمة، كانت هي الرجفة التي تهز الأرض من حين إلى حين، وتنقل التاريخ من فصل إلى فصل!

ولكن ابن آدم سَهْوان: يُذهله نجب السلطان عن صوت العبَر، كما يذهله غرور الحياة عن يقين الموت! فلا يفيق من سكرة الدنيا إلا بوكزة الداء، ولا من سَوْرة الحكم إلا بسقطة الوزارة!

سيتحرَّج التاريخ من تسجيل هذا العهد وإن سجل كثيراً من أمثاله! لأن المظنون أن العالم يتقدم ولا يتأخر، ويترقى ولا ينحط؛ فكيف يجد المعاذير لقطعة من الأرض يعزلها سارقوها عن الوجود الحاضر، ثم يحاولون أن يضربوا الأسداد بينها وبين الحرية والديمقراطية، فلا ترى سيادة هذه ولا تسمع أناشيد تلك! ولكن التاريخ لا ينسى - وإن نسى الناس - أن للنظام العالمي جاذبية تجذب المتخلف، وللعدل الإلهي صيحة تُسمع الأصم، وللشعب الوديع حيوية يَقْظى تعود بالمبطل صاغراً إلى الحق، وتُفئ بالحق السليب موفوراً إلى أهله!

حنانيك يا رب! لقد تألمنا حتى أشفق الألم، وصبرنا حتى جزع الصبر، وضحينا حتى أصبحنا كلنا ضحايا!! فعسى أن يشاء عدلك وتريد رحمتك ألاَّ نقاسيَ مثل هذا العهد، وألا نعانيَ مثل هذه التجربة، وألا نكابد مثل هذا البلاء!

الآن أصبح الليل، وانجلت الغمة، وتهتكت سدول الظلام عن السماء الواعدة، والضياء الهادي، والأفق الممتد، والطريق القاصد! فهل ترتد الشياطين إلى قماقم سليمان، وترجع الخفافيش إلى حَوالك الغِيران، ويستقيم القوم على عمود رأيهم حتى يلحقوا الناس ويدركوا الغاية!

أحمد حسن الزيات

<<  <  ج:
ص:  >  >>