قرأت مرة أن سرياَ أمريكياً كان له مصانع ومتاجر، كأفخم ما يكون من مصانع ومتاجر أصابتها النار فاتت عليها وقدرت الخسائر بملايين الدولارات
وكان هذا السري في السابعة والستين من عمره، ليس له قوة الشباب، ولا أمل الشباب، ولا طموح الشباب؛ وكانت ثروته الضائعة ثروة العمر، ومجهود العمر، ونتيجة العمر
أتى إليه (مكاتب) يسأله عن هذه الكارثة وأسبابها ومقدارها فأجابه: (لست أفكر في شيء من ذلك، إنما يملك على كل فكري الآن: ماذا أنا صانع غدا)
يعجبني هذا الاتجاه العملي في التفكير، فانه دليل الحياة، وعنوان القوة، ومبعث النشاط؛ فما دمتَ حيا ففكر دائما في وسائل الحياة؛ وتلك كلها أمامك لا خلفك، وفي الغد لا في الأمس
لقد دل هذا السري بإجابته على أنه يقتني عقلية أقوم مما رعته النار، ونفسية لا تفنى بفناء المال
إن الحياة الناجحة تفكر في الغد، والحياة الفاشلة تبحث في الأمس. وقديما قالوا:(إذا أفلس التاجر فتش في دفاتره القديمة). وقال الشاعر وقد رأى بني تغلب لا يعملون عملا جديدا مجيدا، ويكتفون برواية قصيدة قالها عمرو بن كلثوم التغلبي في مدحهم:
أُلْهي بني تغلب عن كل مكرمةٍ ... قصيدةُِ قالها عمرو بن كلثوم
يفاخرون بها مذْ كان أوَّلهم ... يا لَلرَّجال لشعر غير مسئوم
ولأمرٍ ما خلق الله الوجه في الأمام ولم يخلقه في الخلف، وجعل العين تنظر إلى الأمام ولا تنظر إلى الخلف، وأراد أن يجعل لنا عقلا ينظر إلى الأمام وإلى الخلف معا، وأن يكون نظره إلى الخلف وسيلة لحسن النظر إلى الأمام؛ فعكس قوم الفطرة الإنسانية ونظروا بعقولهم إلى الخلف وحده، وقلبوا الوضع فجعلوا النظر إلى الخلف غاية لا وسيلة
من هؤلاء الذين نُكّسوا في الخلق من إذا حدثتهم فيما هم صانعون غدا حدثوك عما صنعه آباؤهم الأولون، وكيف حاربوا وكيف انتصروا، وكيف سادوا العالم، وكيف وكيف. وهذا حق لو أتخذ وسيلة لعمل مستقبل، واستحثث به الإرادة لعمل مستقبل، وضرب مثلا لمعالجة مشاكل المستقبل؛ أما أن يكون غرضا في نفسه فحديث العجزة ومن أصيبوا بأنيميا