للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(الفكر) وضعف الإرادة

وممكن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين يثيرون العداوات القديمة والأحقاد القديمة بين رجال الأمة وقادتها؛ فإذا طالبتهم أن ينظروا إلى الأمام، ويتكيفوا بما يتطلبه المستقبل، أبوا إلا أن يذكروا لك تاريخ الأمس، وحزازات الأمس، وسخائم الأمس، وما دروا أنهم بهذا يعطلون مصلحة المستقبل وخير المستقبل، أو دروا ولكنهم الماكرون الخادعون. فليس يصح أن ينظر في الأمس إلا لتجنب أغلاط الأمس في المستقبل، والانتفاع بصواب الأمس وخطئه في المستقبل

وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين جمدت عقولهم فاعتقدوا أن كل شيء كان خيره في الأمس وشره في الغد؛ فخير النحو ما وضعته سيبويه، وخير البلاغة ما قاله الجاحظ، وخير الفلسفة ما قاله أبن سينا وأبن رشد والفارابي، وخير عصور الدين ما سبق من العصور، وخير الأخلاق أخلاق آبائنا، وأنه لم يبق في هذا الزمن إلا الحثالة من كل علم وأدب ودين وخلق، وأن العالم في ذلك كله سائر إلى التدهور دائما، فأمس خير من اليوم، واليوم خير من الغد. فهذه العقلية لا تنفع للحياة وإنما تنفع للصوامع؛ ولا تنفع للجهاد وإنما تنفع للفناء؛ ولا تنفع لمن أرادوا أن يتبوءوا مكانا في الحياة وإنما تنفع من أرادوا أن يتبوءوا مكانا في القبور. إن النحو الذي ننشده هو في المستقبل لا في الماضي؛ واللغة التي تصلح لنا وتؤدي مطالبنا في الحياة هي في المستقبل لا في الماضي؛ والأدب الذي يمثل نزعاتنا حق تمثيل هو في المستقبل لا في الماضي؛ والأخلاق التي تلائم الموقف الاجتماعي الذي نقفه اليوم هي في المستقبل لا في الماضي؛ وليس لنا من الماضي إلا ما يصلح للمستقبل بعد غربلته وإبعاد ما تعفن منه. إن موقفنا بين الماضي والمستقبل يجب أن يكون كموقف وجهنا فينا؛ وضعه الطبيعي في الأمام؛ ولكن الإنسان قد يلوي عنقه وينظر إلى الوراء إذا دعت الضرورة، ثم يعود سيرته الأولى من النظر إلى الأمام ويسير ويمضي قدما لشأنه؛ ولن ترى إنسانا طبيعيا لوى عنقه، ونظر إلى الخلف دائما

وممن نكسوا في الخلق هؤلاء الذين ينتظرون القدر؛ أولئك لم ينظروا للمستقبل، ولكن ينظرون إلى ما يفعل بهم المستقبل؛ أولئك ينفعلون ولا يفعلون، ويتأثرون ولا يؤثرون؛ وإنما مستقبلك في يدك ولك دخل كثير في صياغته، فان شئت تكن فقيرا، وإن شئت تكن

<<  <  ج:
ص:  >  >>