شخصية هذا الشاعر شخصية غريبة، قد اصطلحت عليها أعاصير الحياة، وانحطت عليها الآلام، وهي خلال ذلك تبعث بالألم، وتنشد الشقاء خاليا من الحان الشقاء.
كانت حياته الأولى حياة هادئة كالسماء الصافية لا يغشى أديمها شيء. ثم بدأت سحائب سوداء قاتمة تحتشد من كل صوب لتحجب هذا الصفاء، واستطاعت أن تحجبه، واستطاعت أن تعكر عليه صفاءه. وتجعل حياته الجميلة مأساة عاشت مع نفسه. وترددت أنفاسه في هذه المأساة التي عصفت به وعصف بها!
رحم الله أبا نواس. فقد كان يدعو الندامى والشاربين إلى أن يغبطوه على سكره كلما شرب، لأنه يرى في سكرته نشوتين، ويقول لنداماه: تسكرون انتم سكرة واحدة، وأنا اسكر سكرتين.
لي نشوتان وللندمان واحدة!
وكذلك كان (بول فرلين). فسكره كان متصلا، وذهوله الروحي كان متصلا، يقتله السكر الأول ولكن السكر الثاني يحييه. ولعله كلما توغل في السكر القاتل زادت محبة الحياة عنده في السكر المحيي، فألح عليه أصدقاؤه أن يتحرى المرأة فتحرى فوجدن وشفع له جمال نفسه عن دمامة وجهه. ولكنه لم يجد الشفاء المرتجى في المرأة، فذهب يتحرى، ولعله تمثل أن شفاء نفسه في صديق يفهمه، ولعله اعتقد انه وجده في الشاعر الرمزي (ارتور راميورد) فمال إليه ميلا غريبا. . وفتحت قصائده مغاليق نفسه، فاتصلا بضعة اشهر ثم انفصلا، ولعل أمر انفصالهما كان كأمر اتصالهما، لان الأرواح قد تتجاذب وقد تتدافع. ولكن هذا الانفصال لم يكن إلا إلى حين، لان (فرلين) الضعيف كتب إلى صديقه يدعوه، فلبى الصديق نداءه، وعاد إليه يقضيان - في بلجيكا - حياة تضل فيها الظنون، وتحلق فيها الأوهام. ولكن أمد هذه الصداقة لم يطل. وليته مات موتاً، ولكنه انقطع انقطاعا. فأن (فرلين) عقب سكرة عنيفة قد اقتفى اثر صديقه في الطريق. وأطلق عليه رصاصة جرحته جرحا بليغا. شاء ذلك (فرلين) السكير. وشاءت ذلك نفسه الذاهلة الغلبة على نفسه الواعية،