للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولعل مبعث ذلك كله هو الخمر! فلبث عامين يتخبط في سجن (بروكسل). حتى إذا انطلق من السجن عاد إلى ميدان الحياة يغامر فيه، ويطلب لنفسه منفسحا، فشغل مناصب علمية في أقطار مختلفة، ثم لجأ إلى باريس. لا يحمل إلا قلبه الشاعر! وقلب الشاعر أرجوحة تترجح بين الشقاء والهناء، فعزاه عن خطوبة انه طفق يرى كوكب مجده يسطع ويتألق، وان أصدقاءه المعجبين به يشيعون ويظهرون، فلتفن كل آلام الحياة أمام هذا الأمل المشرق، ولتقو ما شاءت أشواك الألم ما ظللت هذه الزهرة حية لا تقدر على خنقها.

أما مجده الشعري الذي خلقه من بعده، فهو يتجلى في مذهبه الرمزي الذي لم يتكلفه تكلفاً. وإنما كان برموزه يساير روحه التي تأنس بالغموض والإبهام، وتأوي إلى عالم ملؤه الأوهام والأحلام.

جرب (فرلين) جل المذاهب الشعرية الشائعة في عصره، فسمع الحان (الرومانتيكيين) وطرب لها، ولكنه فر عاجلا وأبى أن يظهر مرارته بهذه الألحان، فأتى المدرسة (البرناسية) ووجد فيها ضالته، فنظم قصائد كثيرة خالية من ميول النفس واهوائها، وهو القائل:

(أليست من رخام (فينوس ميللو)

فقد فرض على قلبه أن يكون من رخام أيضاً يوم يتلمس هذا الجمال الرخامي.

ولكن (فرلين) المتقلب لا يجد أن هذه المذاهب تستطيع أن تتسع لنفسه الفياضة، فهو يحس - في نفسه ميولا غامضة تتمشى، ونزوات مبهمة تتهادى، فأي فن رخامي يقدر على بيانها؟ فمال عن المدرسة (البرناسية) ومشى وراء الشاعر (بودلير) مشية المحترس فاخذ من (بودلير) كثيراً. وولد شعر (بودلير) في نفسه كثيراً وأيقظ في نفسه كوامن كان يحسها، ولكن لا يجد إلى الإفصاح عنها سبيلا.

وبعد أن رأينا (فرلين) يصارع أصحاب الشعر العاطفي الشخصي نراه غدا أوضح الشعراء شخصية وعاطفة في شعره، ونرى قصائده الأخيرة إنما هي رسالات حقيقية يمكننا أن نعتمد عليها في درس شخصية الشاعر، تلك الشخصية المعقدة الجوانب التي اجتمعت فيها مذاهب متباينة وميول من الحياة متنافرة، وصدر من اجتمعت فيه هذه المذاهب وهذه الميول نراه طوراً كالرخام تمر به وتضج وتثور فلا يحسها، وطوراً تمر به مر النسيم

<<  <  ج:
ص:  >  >>