للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[نحن في صراع دائم]

للأستاذ حسين الظريفي

كان يعتقد في العقل أنه ليس إلا ما تمليه علينا تجارب الحياة؛ فالطفل يولد ولا عقل له، حتى يأخذ عن الوسط ما هو فيه، ويظل رهين شروط حياته الخاصة والعامة بلا حد ولا أمد، ومن شب عن الطوق وتفرد عن المجموع فقد أوتي حظاً كبيراً

تلك كانت نظرة العلم إلى العقل من حيث يظهر ومن حيث يتطور. غير أن فقهاً تمخضت عنه بداية القرن الحديث، نظر إلى هذا العقل الذي يولد بعد الولادة ويظل محدود في نموه وسموه بين المهد واللحد؛ فأحاط به ثم تجاوزه إلى ما وراءه فأيقن أن هناك عقلاً باطناً يكمن وراء عقلنا الظاهر أورثتنا إياه قرون تتصل بأول الخليقة؛ فهو ميراث ماضينا من حيث يبدأ إلى حيث يتصل به حاضرنا الذي نحن فيه، ولا تزيد الأحقاب إلا شداً ومداً

وقد أسفرت بحوث العلم عن إثبات ما لهذا العقل الكامن من الأثر البالغ، في تلوين النزعة والفكرة والإرادة واقتيادها إلى حيث يريد، على غير شعور منا بما نفعل ومالا نفعل

إن موضع القوة في هذا العقل قائم وراء ما له من مظهر الخفاء؛ ففي غفلة عما نعيه ونسترعيه من شئوون عقلنا الشاعر، يقوم العقل الباطن بعمليات التفاعل حتى تنبعث من أعماقه كلمته الآمرة أو الزاجرة فتدين لها الجوارح. ونحن لا نعي ما يدبر ويقرر إلا ذلك الأثر الذي نقوم به، غير شاعرين بالبواعث

إن قوة العقل الباطن آتية مما يبطن في فعله وانفعاله، في ذات نفسه وفيما وراءه من عقل واع تحيط به الظروف والوقائع. فالرغبة فيه خفية يضغط عليها ما تواضع عليه الناس من عرف وتقليد. والحركة فيه قائمة دائمة ولكنها في قعر غير قريب، وما أقول باستحالة الوصول إلى قاعه البعيد. ولكن دون ذلك أهوال

هنالك حيث لا يصل سمع ولا بصر، إلا ما ندر، تزدحم الرغائب وتتصادم، ويعلو بعضها على بعض درجات وطبقات، وكل رغبة منها تريد بلوغ القمة والخروج من الزاوية إلى النافذة، لتلقى النور، وتعرب عن نفسها بأعمال الجوارح؛ ولكنها لا تكاد تصل السلم حتى تجد عليه رقيباً عتيداً يدفع بها إلى الحضيض. وهكذا تبقى الرغائب حية في القبر تتنازع وتتصارع والرقيب يأبى عليها إلا أن تنحدر إلى ما وراء مجرى الشعور، مهما أستحرَّ

<<  <  ج:
ص:  >  >>