مضى عام كامل منذ أن رافق (س) رفاتها إلى المقرّ الأخير، فرأى أن يزور القبر بهذه المناسبة وأن يضع على الضريح طاقة من البنفسج، لأنها كانت تحب هذا الزهر الذي طالما لاحت زرقته في إنسانيْ عينيها، ثم قصد إلى محل الشاي حيث اعتاد مقابلتها لدى خروجها من عملها، وجلس إلى المائدة التي كانت تجلس إليها وهي تنتظره في شغف وسرور. . ثم أقبل الخادم وكان هو بعينه الذي خدمهما في العام الماضي، فحياه (س) كالعادة في لطف ودعة، ثم طلب الطلب نفسه: قدحْين من الشاي، فدهش الخادم لأن الرجل لم يكن معه أحد، ثم أخرج (س) مجموعة من الرسائل التي علتها صفرة القدم ثم أخذ يتلوها واحدة واحدة للمرة المتمّمة للمائة، ولكن كان يجد فيها دائماً لذة جديدة كأنها لحن من ألحان ديبوسي الشجية التي لا تملها النفس أبداً. .
ها هي ذي ذكريات الماضي ماثلة أمامه: مقابلاته الأولى مع محبوبته، رحلاتهما، نزهاتهما، نوادرهما، جلساتهما في هذا المكان نفسه، تناولهما الشاي في هذه الساعة نفسها، كل ذلك كان يحسّ وجوده، حتى المحبوبة خيل إليه أنها بجواره. . كان يشعر بلذّة عظيمة من أجل هذا، لقد أتى عملاً يعدّ من معجزات الرسل إذ تحدّى الفناء وعلا سلطانه فوق سلطان الدهر، ولو إلى زمن قصير!
مضت ساعة، فساعة ولم يحضر أحد. . وكان الخادم يرقبه فظن أن الرجل ضحية خيبة أمل من عشيقة. . ولكن على حين فجأة تذكر قصة هذا الرجل ففهم الحقيقة المؤلمة لما كان يبدو على (س) من مظاهر اليأس المتجلد، فخجل من نفسه وأشفق على الرجل شفقة عظيمة، كما أعجب من تحدّيه للموت ومن وفائه لمحبوبته المتوفاة، ثم اقترب منه ومد إليه يده معتذراً لسوء ظنه قائلا: آسف جداً يا سيدي لقد شككت في وفائك، سامحني! فصافحه (س) في حزن وألم مردداً: لا بأس لا بأس. . وكأنه أفاق من حلمه الجميل فعاد إلى عالم الألم والشقاء، يئن تحت سلطان الزمن.