كان ظهور (الملاح التائه) و (وراء الغمام)، وصدور (الوادي) في لونها الجديد سبباً قريبا في حدوث هذه الضجة الأدبية القائمة. لان الديوانين على رغم ما قيل فيهما نتاج من الطراز الأزل يستحق العناية ويستوجب النقد ويستدعي الخلاف؛ ولان الشاعرين - وان كانا بحكم ثقافتهما غريبين عن العالم الأدبي - قد جذبا إليهما الأنظار، وعطفا عليهما الأنصار، بالطبع الموهوب والذوق الناقد. فلكل منهما في كل قهوة رقيب ورفيق، وفي كلحيفة عدو وصديق، وفي كل ناد مكبر ومنافس؛ ولان الوادي قد أخذت منذ حين تفتح لأدب الشباب (محضراً) في كل أسبوع، وقد تطوع للشهادة له وعليه أساتذة النقد في الجهاد والبلاغ. وكانت الحملة عنيفة على احبي الديوانين لحظهما الوافر من الإجادة ومحلهما الرفيع من الفن؛ فكابد الشاعر الطبيب مبضع العقاد، وقاسى الشاعر المهندس معول المازني. وكان الدفاع عنهما ألكن الحجة أرعن الدليل، لصرفه الجهد في رد المآخذ، ولو عني بتبيين المحاسن كما عني بتحسين المساوئ لأخفى ما ظهر تحت مجهر النقد من ضئال العيوب في بهر الجمال وروعة الصنعة. ولكل عمل من أعمال الناس جهة للمدح وجهة للذم لا تتشابهان على ناظر. والنقدناعة دقيقة لا يحسنها في الغالب إلا شيوخ الادب، لانهم استكملوا عدتها، واكتسبوا ملكتها بإدمان الدرس وطول المران وكثرة التجربة، فرد مآخذهم إذا برئت من الشطط والاعتساف يكون في الكثير الغالب من وراء القدرة الشابة.
كان أسلوب النقد ولا سك مشوبا بصلف الاستاذية، وعنت الحزازة، وعبث التهكم. وحجة النقاد انهم بالطبيعة أولياء الفن، وأمناء هيكله، وأصحاب اذنه، فلا يجمل بهم أن يخلوا فيه من لا يثبت معدنه على شدة السبك، ويخلص جوهره على تقصي النظر؛ وان الأدب اعسر من أن ينال بالدعوى العريضة، والدعاية المريضة، والأساليب الملفقة.
وكان طبيعيا أن يأنف الشباب من هذه اللهجة، ويألموا من هذه الشدة، ويزعموا أن هناك ائتمارا بهم وإنكارا بأدبهم، فيسوء ظنهم بالنقد، وتفيض مجالسهم بالشكوى، ويقابلوا الأستاذية بالتمرد، والحزازة بالعناد، والتهكم بالحنق، وبسطوا الأمر على انه نزاع بين أدبين: قديم يشتهيه الموت، وجديد تبتغيه الحياة، وتنفرج الحال أخيرا بين جيلين مقام الأول من الثاني مقام المدرب المشفق، والمرشد الناصح، والدليل المجرب.
إن شيوخ الأدب وشبابه إنما يصطنعون أدوات واحدة، ويعالجون موضوعات متقاربة،