إذا كان استنتاج الأخلاق من الدين وربطها به حسب ما كان يراه رجال الدين المسيحيون منقوداً كما رأينا، فهل من الممكن استنتاجها من معين آخر؟ ذلك ما حاوله كبار فلاسفة ما وراء الطبيعة.
شغل كثير من الفلاسفة أنفسهم ببحوث ما وراء الطبيعة التي أهمها تعرّف القوة الموجدة لهذا الكون والتي إليها الأمر والنهي وهي مصدر الخير كله، ثم استنتاج الأخلاق منها، سواء منهم من تقدم بهم الزمن أمثال أرسطو وأفلاطون أومن تأخر بهم أمثال: ديِكارْت، لِيبْنز، سْبيِنوزا، مَالبْراَنشْ.
هذه الأخلاق المبنية على مباحث ما وراء الطبيعة لها حظها من السمو والجلالة بجعلها للخلقية الإنسانية معنى كبيراً نبيلاً إذ تربطها بالله العلي الحكيم. على رغم ما بين علماء ما وراء البيعة من اختلافات جوهرية في حل مشكلة العالم، تراهم جميعا متفقين على الاعتقاد بأن للمرء عقلاً نظرياً يصل من نفسه بلا حاجة لتجربة ولا لشيء آخر إلى معرفة الحقيقة الطلقة أي إلى معرفة الله تعالى، ومن هذه المعرفة العالية المباشرة تصدر الأخلاق. فالله هو مصدر كل حقيقة موجودة، والكائن الكامل ومبدأ الحياة الأخلاقية؛ فكرة الكمال هذه هي نقطة التحول مما وراء الطبيعة للأخلاق. كما أن نسب الكثرة هي موضوع الرياضيات، تكون نسبة الكمال موضوع الأخلاق والأساس الذي نبني عليه حكمنا على الأشياء والأعمال. الدابة كما يقول مالْبرانْش أوفر حظاً من التقدير من الحجر لأنها أقرب منه للكمال. والأمر على العكس بين الدابة والإنسان لأن نسبته من الكمال أوفى وأكبر من نسبتها منه؛ فالذي يحترم مثلاً حصان عربة أكثر من سائقها يكون ضالاً في حكمه متنكباً سواء السبيل. كذلك من الواجب أن نلاحظ أنه يوجد في المرء نسب متفاوتة من الكمال بين مختلف أعضائه، وهذه النسب تتباعد تارة وتتقارب أخر إلا أنها تتفاوت على كل حال؛ فالروح مثلاً أكمل من الجسم، والعقل أكمل الحواس
من أجل هذا يجب أن يعيش المرء كإنسان لاكحيوان، وأن يكون في سلوكه حسب النظام