في أوائل القرن التاسع عشر تخلصت مصر من نير العصرين المملوكي والتركي، وانسلخت من حياة قاسية انحط فيها الأدب إلى الدرك الأسفل، واستقبلت عهدا جديدا في تاريخ أسس دعائمه على الكبير.
وزخر العهد الجديد بالإصلاحات الكثيرة التي تناولت مرافق الحياة في مصر، وأخذ ركب الحياة يمضي في ثوبه الجديد. ولكن الحياة الأدبية في ذلك الوقت لم تنل حظا كبيرا. فعلى الرغم من الإصلاحات العلمية وعلى الرغم من التعليم المدني الذي بعثه محمد علي في فجر النهضة المصرية فإن الأدب المصري كان يعاني لونا من التفكك وضربا من الجمود.
وقد شاهد العهد الجديد تغييرا كاملا في الحياتين السياسية والاجتماعية، ولكن الشجرة الأدبية لم تؤت أكلها أو ترسل ثمارها بالسرعة التي كنا ننتظرها، لأن سياسة التعليم في ذلك الوقت وبالتالي حياة الأدب لم تكن جميعها منبعثة من منبعها الطبيعي، وإنما كانت إصلاحات عامة يصدرها الحكام وحدهم، ويحس لها العلماء والأدباء ليسيروا سيرا مدرسيا بحتا لا يتجاوز جدران المدرسة أو يعدو قوانين التعليم العام. أما الأدباء المطبوعون والشعراء الموهوبون الذين يستطيعون أن يعبروا عن ميولهم وميول الشعب ويرسمون حياتهم وحياة الشعب؟ والذين كان في مكنتهم أن يضعوا لبنة متينة تمثل مرحلة من مراحل الحياة الأدبية في ذلك الوقت - فلم يفتح الباب أمامهم ولم يعطوا الحرية الكافية ليصوروا الأدب المصري الرفيع كما ينبغي.
وما كاد عقرب الزمن يطوي وراءه نصف قرن بعد محمد علي حتى اشتد الفارق بين الأدب الشعبي والأدب المدرسي. ثم أخذ الزمن يمضي وأخذت الأحداث تتقلب، وعاشت المدرسة في بيئة وعاش المجتمع في بيئة أخرى وازدادت الألسنة تبلبلا حين جمدت الثقافات الأدبية في موطن واحد هو المدرسة، استعصت على الحياة وامتنعت عن التفاعل بها.
وتقدم الزمن ووقعت (الثورة العرابية) وتدخلت أصابع الأجنبي لكبحها وقتلها. وشاء الله لها