للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[١٠ - دفاع عن البلاغة]

٢ - الأسلوب

من رجال الأدب من يرى أن العلاقة بين المعنى واللفظ كالعلاقة بين الجسم والثوب، لكل منهما على تلازمهما وجود ذاتي مستقل له أوصافه وخصائصه؛ فالجسم يقوَّم بحساب الخلقة؛ والثوب يقوَّم بحساب الصناعة. ومنهم من يرى أن العلاقة بينهما كالعلاقة بين الروح والجسد، لا يوجد هذا بغير ذاك؛ فإذا انفك أحدهما عن الآخر الحي وفسد الكائن. ونحن كما علمت من قبل على رأي هذا الفريق. فقد قلنا في كلمة سبقت إن الأسلوب هو الهندسة الروحية لملكة البلاغة؛ وإن البلاغة التي نعنيها هي البلاغة التي لا تفصل بين العقل والذوق، ولا بين الفكرة والكلمة، ولا بين الموضوع والشكل: إذ الكلام كائن حي روحه المعنى وجسمه اللفظ، فإذا فصلت بينهما أصبح الروح نفساً لا يتمثل، والجسم جماداً لا يحس

فالفكرة والصورة في الأسلوب كلٌ لا يتجزأ، ووحدة لا تتعدد. وليس أدل على اتحادهما من أنك إذا غيرت في الصورة تغيرت الفكرة، وإذا غيرت في الفكرة تغيرت الصورة. فقولك أعنيك، غير قولك إياك أعني. وقولك كل ذلك لم يكن، غير قولك لم يكن كل ذلك. وقولك ما شاعر إلا فلان، غير قولك ما فلان إلا شاعر. فترتيب الألفاظ في النطق لا يكون إلا بترتيب المعاني في الذهن؛ وإن مزية الألفاظ (ليست لك حيث تسمع بأذنك، بل حيث تنظر بقلبك وتستعين بفكرك). (ولن يُتصور في الألفاظ وجوب تقديم وتأخير وتخصيصٌ في ترتيب وتنزيل. وعلى ذلك وضعت المراتب والمنازل في الجمل المركبة. . . فقيل من حق هذا أن يسبق ذاك، ومن حكم ما ههنا أن يقع هنالك. . . فإذا رأيت البصير بجواهر الكلام يستحسن شعراً أو يستجيد نثراً، ثم يجعل الثناء عليه من حيث اللفظ، فيقول: حلو رشيق، وحسن أنيق، وعذب سائغ، وخلوب رائع، فاعلم أنه ليس ينبئك عن أحوال ترجع إلى أجراس الحروف وإلى ظاهر الوضع اللغوي، بل إلى أمر يقع من المرء في فؤاده، وفضل يقتدحه العقل من زناده). وإنا حين ذكرنا أن الأسلوب هو الطريقة الخاصة في اختيار الألفاظ وتأليف الكلام، كنا نريد بذلك اختيار الألفاظ على الشكل الذي يرتضيه الذوق، وتأليف الكلام على الوضع الذي يقتضيه العقل.

<<  <  ج:
ص:  >  >>