للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

فالأسلوب إذن هو طريقة خلق الفكرة وتوليدها وإبرازها في الصورة اللفظية المناسبة. هو ذلك الجهد العظيم الذي يبذله الفنان من ذكائه ومن خياله في إيجاد الدقائق والعلائق والعبارات والصور في الأفكار والألفاظ، أو في الصلة بين الأفكار والألفاظ. ولهذا الجهد جهتان: جهة موضوعية تتصل بالنظام، وهو حسن الترتيب، وصحة التقسيم، وإحكام وضع القطع في رقعة الشطرنج التي نسميها جملة أو فقرة أو فصلاً أو مقالة. وجهة أخرى شكلية تتصل بالحركة، وهي خلق الكلمات والصور والتأليف بينهما على نمط يحدث الحياة والقوة والحرارة والضوء والبروز والأثر

من ذلك نرى أن الأسلوب خلق مستمر: خلق الألفاظ بواسطة المعاني، وخلق المعاني بواسطة الألفاظ. ومن ذلك نرى أن الأسلوب ليس هو المعنى وحده، ولا اللفظ وحده، وإنما هو مركب فني من عناصر مختلفة يستمدها الفنان من ذهنه ومن نفسه ومن ذوقه. تلك العناصر هي الأفكار، والصور، والعواطف، ثم الألفاظ المركبة، والمحسنات المختلفة

والمراد بالصورة إبراز المعنى العقلي أو الحسي في صورة محسَّة، وبالعاطفة تحريك النفس لتميل إلى المعنى المعبَّر عنه أو لتنفر منه

ففي قول أمير البلاغة علي بن أبي طالب: (ألا إن الخطايا خيل شُمُس حُمل عليها أهلها، وخُلعت لجمها، فتقحمت بهم في النار؛ وإن التقوى مطايا ذُلُل حُمل عليها أهلها، وأُعطوا أزمتها، فأوردتهم الجنة). تجد صورتين: صورة الفرس الشموس لم يروَّض ولم يلجم فيندفع براكبه جامحاً لا ينثني حتى يتردى به في جهنم؛ وصورة الناقة الذلول قد سلس خطوها وخف عنانها فتنطلق بصاحبها في رسيم كالنسيم حتى تدخل به الجنة. ثم تجد عاطفتين: عاطفة النفور من الألم الذي يشعر به الخاطئ المستطار وقد جمحت به خطاياه الرُّعن في أوعار الأرض حتى ألقته في سواء الجحيم؛ وعاطفة الميل إلى لذة المتقي الوادع وقد سارت به تقواه سيراً ليناً حتى أبلغته جنة النعيم

ذلك من حيث الموضوع؛ أما من حيث الشكل فتجد اختيار الألفاظ المناسبة للفكرة، كالمطايا وما يلائمها من الانقياد والإيراد هنا، وكالخيل وما يوائمها من الشماس والتقحم هناك. والفروق الطبيعية بين هذين الحيوانين في هذين المكانين لا تخفى على ذي لب. ثم تجد بعد ذلك هذا التأليف المتوازن المحكم الرصين، وهذه المقابلة البديعية بين عشرة معان لا

<<  <  ج:
ص:  >  >>