لم ترتعش روحي ارتعاشة الجزع في تلك اللحظة وحدها: لحظة أذاع الأثير نبأ وفاة طاغور، بل قد سرت فيها الرعشة كموجة الكهرباء منذ استطار في العالم أن طاغور يعاني آلام المرض الخطير، إذ اختلج في إحساسي - حينذاك - أن هذه الإنسانية الكاملة التي تجتمع كلها في شخص هذا العظيم، قد أشرفت على ساعة الانتقال من دنيانا هذه إلى دنياها الجميلة في ملكوت الله، حيث تبلغ روح طاغور قمة الفرح الأسمى التي نشدتها بالحب الإلهي، وبالتأمل في جمال الأكوان التي (تحلها) روح الله.
قد اختلج في إحساسي - حينذاك - أن إنسانيتنا المسكينة تكاد تلتهمها لجة اليأس بانقطاع هذا الخيط الجميل من النور الأمل الذي يمتد إليها من صوت طاغور.
قد اختلج في إحساسي - حينذاك - أن أرضنا المعذبة تكاد تفقد فضلة إيمانها بالعدل والحق والخير، بانطفاء هذا القبس الوهاج من إيمان طاغور.
قد اختلج في إحساسي، كذلك أن ناس هذا الجيل تكاد تسكت في جوانب ضمائرهم أصداء هذه الأنشودة الرخيمة التي يترعها قلب طاغور رحمة ودعوة صالحة للسلام، فلا تتجاوب في ضمائرهم - من بعد - إلا أصداء أنشودة واحدة تتعالى في جوانب هذه الأرض من كل صوب، يوقعها قلب ماردٍ جبار يحدو بالإنسانية إلى هاوية الخراب والدمار: تلك أنشودة الحرب التي تجلجل اليوم في الضمائر أكثر مما تجلجل في الآذان.
ويا سرعان ما صدق القدر كل هذا الذي اختلج في إحساسي منذ تأذن الأثير باشتداد وطأة المرض على جسم طاغور، ويا سرعان ما أزفت لحظة القدر، فإذا هذا الإنسان العظيم يصعد إلى القمة العليا لينعم بحبه في كنف الحبيب الأعلى، تاركاً هذه البشرية تزحف في السفح الرهيب بين الآثام والأرجاس كما تزحف الحشرات الدنيا في الأقذار والأنجاس.
وبعد: لقد مات طاغور، فمن هو طاغور؟
أهو شاعر؟ أجل: ولكن شاعر يتغنى بأشواق الروح ليطهر أشواق الجسد، ويعلن نداء الخير ليسكت صرخة الشر، ويشهد بجمال الموت ليسمو بجبال الحياة، ويهدهد أحلام القلب