أهو فيلسوف؟ نعم: ولكن فيلسوف يتسامى إلى ما وراء الطبيعة لا لكي يهجر بيت الطبيعة، بل لكي يستجلي أسرارها على هدى من الإشراق الإلهي، ويستخرج كنوزها بعونٍ من القدرة العليا المبدعة، ويستكشف فضائلها وخيراتها على ضوء من صفاء الروح، وسمو النفس، وبساطة الفطرة، ووضوح العقيدة، وحرارة الإيمان، وهذه هي خلاصة فلسفة الشرق القديم مجلوة بروح جديدة، هي روح طاغور الصافية، الطليقة، السمحة.
أهو صوفي؟ أجل: هو كذلك، ولكن أية صوفية هذه التي يلبس (جبتها) طاغور؟
هي لون جديد في دنيا التصوف، لون محبب للنفس ومحبب للعقل معاً، لأنها صوفية جميلة أنيقة مترفة، لا تتقشف ولا تتزهد ولا تتزمت، وهي - حين تسمو بروح طاغور عن دنيا البشر لتفنيها في ذات الله فناء مطلقاً - لا تذهلها نشوة الفناء عن آلام بني الإنسان وشقاء أبناء التراب، وإنما هي تستمد من حبها الإلهي السامي، ومن نشوتها الروحية العليا - فيضاً من الحب للإنسانية جمعاء، بل هي كلما أمعنت في الاقتراب من الحبيب الأعلى أمعنت في الاقتراب من الإنسانية: تتلمس آلامها، وتتحسس أحزانها، وتتأثر مواطن شقائها، ذلك لكي تقيم الدليل، بأسلوب من إلهام الروح، على أن رابطة الحب السامي بين الله والإنسانية هي أسمى روابط الحب، وهي أهدى طرق النجاة من هذه الآلام والأحزان وهذه الضروب المختلفة من الشقاء التي يعانيها الإنسان على هذه الأرض، ولكي ترى هذه الصوفية العذبة على وضح الإدراك الصحيح - يجب أن تقف بفكرك لحظة عند هذه الأغنية من أغاني (البستاني) التي يستهلها طاغور بنداء يهتف به أن: (قد آذنت شمسك بالمغيب واشتعل رأسك شيباً، فحسبك غناء وإنشاداً، بل آن لك أن تصغي وتصيخ إلى داعي (الغد) فتقول: لبيك)
فبماذا يجيب طاغور هذا النداء؟:
(. . . من للقلوب وعواطفها، وللعيون وأسرارها إذا أنا تبوأت من ساحل الحياة صخرة صماء ولبثت شاخصاً إلى أكمة الموت وما وراءها)
أتراه الآن صوفياً كهؤلاء الصوفية المتزمتين الغارقين في لذاذة الفناء بالله حتى لا يحسون الحياة ولا تحسهم الحياة؟