للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

لا: بل إنك لتراه إنساناً طفحت نفسه بالحياة حتى تملاها إحساساً، وتملكته رسالتها إيماناً وعشقاً، واتحد فيها حبه الإلهي وحبه الإنساني معاً، وما الحياة - في فلسفة طاغور - إلا مجلي من مجالي الروح الإلهية العليا، ومن هنا كان طاغور (الصوفي) منسجماً مع طاغور (القصصي) أو (الروائي) إذ تراه في قصصه ورواياته يتناول صغائر حياة الناس ودقائقها يحللها ويجلوها صوراً إنسانية قوية الحركة والحيوية، تثير في النفس ألواناً من العواطف والاحساسات النبيلة. ومن هنا أيضاً كان طاغور (الصوفي) منسجماً مع طاغور (الشاعر) ذلك الانسجام نفسه، فتصوف الرجل لا يعني - في الواقع - إلا الحب بأرحب معانيه: الحب المنبثق من نفس رحبة تحب الله لكونه هو الله، وتحب الإنسان لكونه إنساناً؛ وإنك إذا رأيت إنساناً يدعي الإغراق في حب الذات الكلية العظمى، ثم ينأى عن أخيه الإنسان ويضن عليه بحبه؛ فقل: إن هذا لا يعرف الله حقاً، ولا يحبه حقاً، وإنما هو يحب نفسه ليس غير: يشفق عليها من العذاب الخالد، أو يرجو لها النعيم الخالد.

ومن هذا كله ترى طاغور الشاعر، والفيلسوف، والصوفي، والقصصي - يأتلف وينسجم مع طاغور (المصور) و (الموسيقي) أجل وأتقن ما يكون الائتلاف والانسجام، ذلك لان شاعريته الرحبة، وفلسفته المشرقة، وصوفيته السمحة، وفنه القصصي الحي - ليست هي كلها سوى مظهر من مظاهر رسالته الروحية التي شاء الله أن يلقيها إلى إنسان تتسع نفسه للتعبير عنها بكل ضربٍ من ضروب التعبير الجميل.

أما طاغور (الإنساني) فهو هو نفسه ذلك الإنسان المتعدد الجوانب، المتنوع (الشخصيات)، وليست إنسانيته (شخصية) مستقلة مندمجة في (شخصياته) تلك، لأن الروح الإنساني الشامل هو مركز قوة لكل ناحية من نواحيه، بل تكاد تنحصر عظمة هاتيك النواحي بما تمدها به هذه الإنسانية الكبيرة من معاني السمو، والسباحة، والصفاء، والشمول؛ وبكلمة واحدة: إن جوانب طاغور المتعددة، وإن مواهبه المتنوعة لتجتمع كلها في هذه (الإنسانية) الرحبة فتؤلف منها شخصية واحدة تشبه الكل البسيط الذي لا يتجزأ ولا يقبل التحليل والتفكيك.

بقيت ناحية واحدة غفلت ذكرها فيما سبق عمداً لأنها هي الناحية التي أقصد إليها في عنوان هذا المقال، ولذلك أردت أن أتحدث عنها منفردة لكي أبلغ القصد الذي ارمي إليه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>