وإن كانت هذه الناحية ليست إلا وجهاً من وجوه الصفة الإنسانية الغالبة على روح طاغور، وأعني بهذه الناحية وطنية الرجل، أو مفهوم الوطنية في تفكيره، وفي اتجاهه الروحي، وهنا أحب أن أعترف للقارئ الكريم بأنني - حين أقدمت على التعبير عما أحسست من جزع لفقد هذا الإنسان العظيم - لم أطمح لدراسته دراسة (تستوعب نواحي عظمته جميعاً، وهي لأبعد من أن تنال بهذه الكلمات الطائرة، ولكنني أردت أن أستعين بهذا القدر الضئيل الذي أملك من الطاقة الروحية والذهنية على الوفاء بواجب ذي وجهين: وجه يتعلق بهذا العظيم الذي بلغ نشوته الكبرى بلقاء الروح الكلي الأعظم، ووجه يتعلق بهذا الوطن العربي الذي يتقاضانا استخلاص العبرة، واستخراج ناحية الانتفاع العملي من سيرة هذا العظيم، وإذا كانت نواحي طاغور كلها موضع الانتفاع لكل وطن، وكل قوم، وكل فرد - فإن ناحيته الوطنية أشد لصوقاً بما نحن فيه اليوم من أحوال وظروف، لأننا اليوم أحوج ما نكون إلى تفهم معنى الوطنية على ضوء جلي من تفكير وإلهام هذا الإنسان الملهم، فلقد كادت تنقلب عندنا مقاييس الوطنية انقلاباً غريباً، حتى كادت تكون الوطنية التي نفهمها هذه الأيام لا تعني سوى ارتقاب واغتنام أقصر الفرص لكسب الرزق أو الشهوة أو الحكم، سواء أكان في ذلك خير الوطن أم جلب الضر إليه، وسواء أكان في ذلك تخفيف الشقاء عن أهليه أم إنزال الشقاء عليهم أضعافاً مضاعفة.
إن طاغور (الإنساني) الذي يشمل الإنسانية جمعاء بحبه وحنوه وصفاء قلبه، هو نفسه طاغور (الوطني) الذي أفاض على الهند من هذا الحب والحنو والصفاء ما عرفه الهنود أنفسهم وقدروه قدره، وقابلوه بفيض مثله من الحب والإكبار والإيمان، وهل هذا غريب؟
كلا: ليس شيء أقرب للاتساق مع الطبيعة والمنطق من أن يكون طاغور الإنساني وطنياً صادقاً، عميق الإخلاص، يؤثر مواطنيه بقسط كبير مما وهب قلبه الكبير من الحب الدافق والحنان الشامل، ولكن ما هو مفهوم هذه الوطنية التي تتسق ذلك الاتساق مع نزعة إنسانية تتخطى الحدود والمعالم، وتتخطى العرف والتقاليد والأوضاع؟!
نترك الحديث عن وطنية طاغور وعن حدود هذه الوطنية في ذهنه - إلى سيرته العملية أولاً، ثم إلى آثاره الأدبية ثانياً أما سيرته العملية فتتجلى فيها وطنيته من نواح عدة: فلقد عنى طاغور برفع مستوى شعبه العقلي والروحي والاجتماعي عناية تظهر آثارها العظيمة