فيما أسس من مدارس لتطبيق تعاليمه الفكرية والروحية والاجتماعية: تعاليمه التي يؤمن بها إيماناً منقطع النظير، وتتملكه رسالتها النبيلة تملكاً يشبه من وجوه كثيرة حالات القديسين، تلك التعاليم التي كانت في عقيدته خير وسيلة لإنقاذ الشعب الهندي من صغاره وعبوديته، ومن شقائه وبلائه، ومن ضعته وانحطاطه، ولعل أروع ظاهرة في سيرته العملية هذه، هي محاولته التخفيف من حدة التقاليد البرهمية التي كانت توسع شقة الفوارق والحواجز بين طبقات الشعب وطوائفه، وأنبل مظاهر هذه المحاولة تأسيس طاغور مدرسة عالية لطائفة المنبوذين ليثقفهم تثقيفاً عقلياً وروحياً يغرس في نفوسهم الاعتزاز بكرامتهم الإنسانية، ويشعرهم بأقدارهم في الوجود، ولقد أفاد طاغور من هذه المحاولة أن بث في روحية هؤلاء المنبوذين الخامدة لهباً من روحه كاد يقربهم منزلة من الطبقات الأخرى المترفعة عنهم، وفي هذه المحاولة - كما ترى - مظهر رائع للوطنية الحق، بمقدار ما فيها من نزعته الإنسانية النبيلة، وفي سيرته العملية مظهر آخر للوطنية يتجلى في دعوته إلى إخماد لهب الأحقاد بين المسلمين والهندوس، وإطفاء ثائرة البغضاء بين جميع الطوائف التي تؤلف شعوب الهند، ولقد كانت له في هذا السبيل صيحات كريمة نافعة.
فها أنت ترى أن الوطنية في عرف طاغور ليست عملاً سلبياً مبنياً على الصراخ والتهويش والادعاء الفارغ والتشدق بالألفاظ الفخمة المجنحة، بل هي عمل إيجابي صامت يبني وينشئ ويتناول بالبناء والإنشاء عقل الأمة وروحها قبل كل شيء، لأن الأمة في رأيه ليست أمة حقاً إذا لم تكن ذات عقل ناضج وروح سام، وذات وحدة عقلية وروحية شاملة، على أن تكون في وحدتها العقلية والروحية مجتمعة على الإيمان بمثلها العليا، إيماناً يلهب وجدانها بنزعة التأمل في جمال هذه المثل الكريمة، وبنزعة التقديس لمظاهر الألوهة في هذا الكون العظيم.
هذه أروع مجالي الوطنية في سيرة طاغور العملية، وهي في ذاتها أمثلة عالية للاعتبار والاحتذاء، وهي كذلك حدود واضحة لمعنى الوطنية الصحيح. أما ما تحدثنا به آثار هذا الرجل الأدبية عن مفهوم الوطنية في ذهنه، فحسبك أن تقف من ذلك على بعض رواياته التي يدير فيها الحوار على ألسنة أشخاصها مشبعاً بالآراء والأفكار السامية حول موضوع الوطنية وحدودها، ولعل في روايته (البيت والعالم) أعظم آرائه وأفكاره في هذا الباب، فلقد