وعدت حضرات القراء في عدد الرسالة الأخير أني سأنشر في عدديها المقبلين كلمتين اثنتين، أتوجه فيهما بالحديث إلى صديقي الدكتور زكي مبارك. وهذي أولى الكلمتين، وهي كما رسمت حين وعدت، ترمي إلى تقرير الموضوع الأصيل الذي من أجله كتب الدكتور.
ألقيت محاضرة بمدرج على مبارك باشا في دار العلوم عن (أسلوب المبرد في كامله) وعقب انتهائي منها طلب أحد مستمعيها من طلاب كلية اللغة العربية السماح له بكلمة، فأجبته إلى ما طلب، وكانت كلمته أربعة أسئلة ألقاها، رمي المبرد في رابعها بالغرور والادعاء، وأنه كان لا يتحرى إذا أجاب. فرأيت الموقف يقضي عليّ أن أرد عليه، وفعلاً رددت، وكانت إجابتي عن السؤال الأخير تتلخص في نفي تلك الصفات الذميمة عن المبرد نفياً قاطعاً، استدللت عليه بامور، منها أن من شأن من لا يتحرز في إجابته إلا يمسك إذا لم يتثبت، وإنما يرمي بالقول جزافاً، ويخترع الإجابات اختراعاً، وعهدنا بالمبرد انه غير ذلك، فقد رأيناه في كامله إذا عرض له ما لا يعرفه اعترف بذلك، خضوعاً لتلك الكلمة الجامعة التي لا ينزل على حكمها إلا الثقات الأعلام، وهي (من قال لا أدري فقد أجاب) ثم أخرجت من الكامل شاهداً على ذلك أسمعته الحاضرين، ومنها أن من خالط قلبه الغرور وتملكه الادعاء لم يك في مقدوره أن يخفي ذلك في مصنفاته، بل لا بد أن يفضحه أسلوبه.
ومهما تكن عند امرئ من خليقة ... وإن خالها تخفي على الناس تعلم
وليس في كامل المبرد على كثرة كسبه فيه ونسجه حول أصوله، ما ينفي عنه صفة التواضع العلمي، أو يلقي على أبحاثه ولو ظلاً صغيراً من الكبرياء والادعاء.
ودعماً لهذا الاستدلال الأخير في أن أسلوب الكاتب يشف عن خلائقه، قلت للسائل - وقد ذكر أنه استقى ذلك من شرح الشيخ المرصفي على الكامل - إن مؤلفات المرصفي هي التي تنم عن خلق الغرور والادعاء فيه، كما يعلم ذلك من أطلع على هذا الشرح ومقدمته؛