للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

[البريد الأدبي]

رجائي ورجاء الزيات

كان لي ابن لم يكن يعدّ الثامنة من عمره، وفي مثل هذه الأيام من العام الماضي أطلقته - على رغمي - بين أفياء الجنة يتعجل نعيمها. وبقيت أتجرع غصص هذه الدنيا، لموته حيناً ولحياتي أحياناً

جرى عليَّ هذا الفراق الأبدي فحزنت وتكاءدني وصف هذا الحزن فأنا إلى اليوم أجد مسّه، ولا أستطيع بثه. ولقد كذبت الشعراء حين جعلوا الحزن ناراً تتقد، وتصطلي حرها الكبد. وحين زعموه حسرة تقطع النفوس، ولا تشفي منها الكؤوس. وحين تصوروه أسفاً قاتلا، وموتاً نازلا. وحين شبهوا زفراته بشواظ النار، ودموعه بالسحاب المدرار

والحق أن اللفظ يعيا بوصف حزني كما عي قلبي باحتماله. وما عيننا بوصف النعمة زائلة، إلا حين عجزنا عن فهمها ماثلة. وكيف نتصور وجوداً كانت روائح الجنة في رياه، والسلام أولى دعواه وأخراه

سميت فقيدي (رجاء) وما شغلت نفسي حين اخترت له هذا الاسم أن أكون فيه مقلداً تابعاً، وإنما ارتجلته من قلبي يوم عقدت الرجاء برجاء، وأملت أن يكون خاتمة الشقاء، وبداية الصفاء

يعلم الله يا أخي أن نعيك لرجائك قد أعاد حزني جذعاً، كما كان يوم صادفني وفيّ بقية من الأسر أقوى بها على بعض الأمر، فأما اليوم وقد انهدت قواي بما أخذ مني الأسف وما أبقى، فإني أراك قد نعيت إليّ نفسي بهذا النعي، وما قصدتَ بذلك بغياً عليّ. ولكني أنا الذي أعددت نفسي لرمسي، بين يومي وأمسي

عرفتك أديباً مثقفاً خدمت الأدب أستاذاً ومؤلفاً ومترجماً وناقداً، ثم رأيتك منذ أعوام تجمع هذه المزايا في صحيفتك الخالدة (الرسالة). وكان من حق مثلك على الأيام أن ترفه عنه وتعفيه من معضلات رزاياها حتى يفرغ لواجبه وينهض بعبئه

عرفتك وادع النفس، هادئ الخلق، حليما لا تثار، ولا تُغلب على الوقار. وكان من حق مثلك على الأيام ألا تخرجه عن وقاره. ولا تضجره بحلمه. بل تتركه لهذه الوداعة وتلك الطمأنينة، يرتع الأخوان في بحبوحتها ويفيئون إلى ظلها كلما لفحهم هجير الرعونة،

<<  <  ج:
ص:  >  >>