للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

[إرهاصات في الجزيرة قبيل البعثة المحمدية]

للأستاذ الطاهر أحمد مكي

- ١ -

كان الاعتقاد السائد حتى القرن الثامن عشر، أن الحركات الإصلاحية وليدة العبقرية الفردية، فهي مدينة بوجودها لهم، ومتوقفة في بقائها عليهم، وعلى مقدار ما يوجد من عباقرة، يتوقف سير الحياة أو يندفع، وتبطئ عجلة الزمن أو تسرع، ويشغر مكان القيادة أو يملأ، حتى إذا جاء دور كايم، حطم هذه النظرية، وأقام على أنقاضها صرحا سامقا لنظرية أخرى، وصنع من أشلائها مذهباً عاليا لرأي أقوى، يرد كل ظاهرة في المجتمع إليه، وينسب كل رقي إلى تفاعله، ويجرد الفرد من سلاح الخلق والابتكار!. . .

وهو مذهب حري بأن يقف الإنسان عنده طويلا، وان يتملى حقائقه مليا، فسيقوده في رفق إلى مواطن الخفاء فيما نجح من دعوات فبقي، وما فشل من مذاهب فتلاشى، وما صلح من أديان فخلد، ويرد كل نتيجة إلى أسبابها، وكل ظاهرة إلى عللها، وما الفرد إلا أثر لمكانه وما اتصل به، ولزمانه وما استتبعه، ولبيئته وما اعتمل فيها!. . .

فعلم الاجتماع الحديث يقرر أن الظواهر أيا كان نوعها، من خلق المجتمع وأليست من صنع الفرد، وحقيقة أي مجتمع لا وجود له بدون أفراده، ولكن من تجمع هؤلاء واحتكاكهم، ينشأ شيء يختلف كل الاختلاف عن خواطرهم الفردية، وقد يبدو غريبا إن ينشأ من اجتماع عناصر ما، حقيقة خارجة عنها في عالم المعاني، ولكنها في عالم الطبيعة أمر ظاهر ومألوف، (فكما أن الخلية الحية لا تحتوي على شيء آخر غير الجزيئات المعدنية، كذلك لا يضم المجتمع شيئاً غير الأفراد، ومع ذلك فإنه من المستحيل بداهة أن تحتوي ذرات الإيدروجين أو الأكسوجين أو الأزوت أو الكربون على الظواهر المميزة للحياة، وبناء على ذلك فلا يمكن إلا أن نتخذ الحياة المادية بأسرها مستقرا لها، فهي توجد في الكل ولا توجد في الأجزاء. . . وحينئذ فليس لنا أن نطبق هذا المبدأ على علم الاجتماع) لأن ما هو ممكن في عالم المادة، فهو في عالم الأناسي أمكن، حيث الأفكار تتفاعل، والنظرات تمتزج. . .

وما أناقش مذهباً رست دعائمه، وتوطدت أركانه، أو أن أشرح طرائفه ومناهجه، أو

<<  <  ج:
ص:  >  >>