للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أصوغ قوانينه وقواعده، وإنما أعرض لموقفه من الدين، فهو عندهم ظاهرة اجتماعية وأن جاء به الوحي، وأثر أرضي وإن نزل من السماء، وخلق جمعي وإن نهض به رسول، ما دام المجتمع قد أخذ به ورضيه، وأخلد إلى أوامره وسكن إلى نظمه. ولن يستقر دينفي مجتمع ما، إلا إذا انسجم مع طبيعته، وواءم فكره رقيه الفكري وتطوره الاجتماعي، وكان معدا لسماعه، متطلعا لأحداثه، فالرسل مترجمون عن حالة، المجتمع مهيأ لقبولها، يفهم مظهرها، ويستسيغ حقائقها، ويرنو إلى مثلها العليا. ولأمر ما، كان الرسول بشرا، يأكل الطعام ويمشي في الأسواق!

(إن الدين لون من ألوان التعبير الإنساني عن العواطف والميول والمثل العليا، وإن هذا اللون من ألوان التعبير متصل أشد الاتصال بأمزجة الأفراد والأمم، ممثل لها تمثيلا صادقا قويا. . . وهو طريق من الطرق التي تسلكها الإنسانية إلى الجمال والحق والمثل العليا) ومن ثم تعددت الأديان، لا بتعدد العصور وحدها، وإنما بتعدد الأمكنة أيضا، لأن كينا ما، قد ينهض في موطن ويكبو في غيره، وقد يثمر في مجتمع ويجدب في سواه، فالدين الإسلامي مثلا، وقف عند حدود معروفة ودول معلومة، ورغم الجهود الجبارة التي بذلها المسلمونفي اجتياز هذه الحدود، لم يكتب لهم النجاح، ولم يقدر لهم التوفيق، على حين أن هناك أماكن انتشر فيها بطبيعته، ولم يجد صعوبة ما في أن يثبت فيها وأن يقوى!. . .

وأنا وأنت وغيرنا، هل كان لنا فضل في اتخاذ الإسلام دينا والإيمان به عقيدة، أم ترانا خرجنا إلى الحياة، فوجدنا آباءنا كذلك، فتابعناهم وسايرناهم وسلكنا نفس الطريق الذي يسلكون؟ هل استطاع أحد ما، مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا أو حتى بلا دين، أن يصطنع الجدة ساعة، فرأى المتابعة كسلا، والتقليد خمولا، والإذعان ضعفا، فنقب وبحث ودرس وقارن، وانتهى إلى عقيدة نيرة، يؤمن بها لأنها حق، ويخضع لها لأنها صواب؟

إنما نحن أسارى المجتمع (فالطفل حين يدخل العالم لا يحمل معه سوى طبيعة بيولوجية، غير خلقية أو اجتماعية، تستطيع أن تتكيف بجميع الهيئات والأشكال، فهو لا يختار لنفسه لغة دون أخرى، أو ديانة دون غيرها، بل هو المجتمع الذي يضطره إلى اتباع الديانة التي يشب عليها، أو اللغة التي يتكلم بها، والواحد من ساعة نشأته يؤلف جزءاً من مجتمع له تعاليمه وأخلاقه ولغته وديانته وفنه وعاداته وتقاليده وتاريخه وأنظمته وخرافاته ومثله

<<  <  ج:
ص:  >  >>