في مصر من الباشوات المثقفين فئة كثيرة، تميزوا عن الأشباه لأنهم مهروا في أداء العمل، أو وقعوا في طريق الفرص، أو رقوا في معارج السياسة؛ ثم تهيأت لهم بالدراسة والممارسة أسباب العمل والخبرة، فخبروا أسرار الأمور، وسبروا أغوار المشاكل، وصرفوا شؤون الدولة على نحو من الحكرة المفروضة؛ فهم لا يبرحون ضاربين في الميدان الحكومي فرقه فرقة، يتقاذفون الإدارة، ويتنازعون الوزارة، ويتداولون الأمر، حتى أسرفوا على خير الأمة، وافتاتوا على رأي الجماعة، فقصروا كفايتهم على الخصومة، وحددوا غايتهم بالحكومة؛ فهم إذا وثبوا إلى الحكم استفرغوا الوسع في البقاء فيه، وإذا انقلبوا عنه استنفذوا الوسائل في الرجوع إليه؛ أما تسجيل التجربة بالتأليف، ونشر المعرفة بالصحافة، وتأييد العدالة بالمحاماة، فعمل لا يدخل في حساب الجهد، ولا يخطر في مرام النية! كأن العودة إلى ملابسة الشعب، ومداخلة العامة، ومزاولة الحرفة، أصبحت لا تتفق مع نباهة الاسم ولا تتسق مع جلالة اللقب، ولا تجري على تقاليد المنصب!
في البلاد التي نطيل إليها النظر، ونزعم لها الكمال، ونحصر فيها القدوة، نجد رئيس الحكومة إذا تعطل من الحكم، ورئيس الجمهورية إذا انتهى من الرياسة، عاد كل منها إلى الموضع الذي صعد منه إلى الديوان، أو انتخب فيه إلى القصر، فيستأنف الجهاد اليومي في سبيل الأسرة والأمة الحاكمة بنشاط البادئ، ونفسية التابع، ورجاء الطموح، فهو يدور مع الطبيعة دورة العام: يبدأ لينتهي، وينتهي ليبدأ؛ وفي كل طور من أطواره المتعاقبة تراه يندمج في البيئة، ويتألف مع النظام، ويرمي عن الواجب، فينشر المذكرات، ويحرر المقالات، ويحضر المرافعات، ويكابد في خلال ذلك طمع الناشر وعنت الناقد ومنافسة الحرفة؛ ولكنه على الرغم من رهق الحياة الحافلة، وكلال السن العالية، يؤدي إلى وطنه المنعم زكاة النبوغ وضريبة المجد عملا لا يتأبه، وإحسانا لا يمن، وإخلاصا لا يمين
ذلك هناك والكفاية موفورة، والمحجة واضحة، والأمر متسق. أما هنا ورجالات الرأي قلال، وتبعات العمل ثقال، وميادين الجهاد عزل، ترى النابه منا متى بلغ الوزارة من أي طريق وفي أي سن، ختم حياته العاملة، فاختزل الماضي، واعتزل الشعب، وازدرى العمل، وغفا على رخاء معاشه. فهو وزير ما دامت وزارته، فإذا سقط انقلب إلى مداره العالي يزجي فراغه الملول بالتردد بين أبهاء المستوزرين ونادي الحزب أو نادي (محمد