وما كدنا نقيم بالمدرسة، ونزاول عملنا فيها، ونتصل بهذه الحياة الجديدة، ونتعرف إلى الأهليين في هذه البلاد، ونجوب أنحاءها، ونشاهد آفاقها - ما كدنا نفعل ذلك، حتى أدركنا قيمة المعرفة، ومنزلة الترحال، والانتقال من مكان إلى مكان. .
لقد شعر كل منا بالتقصير في حق بلاده، والتفريط في مصلحة وطنه، لأنه لا يكاد يعرف شيئاً عن هذا الوطن، الذي تقله أرضه، وتظله سماؤه، وينشق عبير روضاته، وينعم بثماره وخيراته. . .
أدركنا هذا، وشعرنا به وتمثل لنا حينئذ نشاط الأجانب، وقيمة الرحلات عندهم، وأثرها في حياتهم، وكيف أنهم ارتفعوا بها قدراً، وعظموا بها منزلة، وخلدوا بها ذكراً، وبعدوا شأواً ودفعتهم إلى العمل المنتج، والسعي الحثيث!.
وهالنا ألا يكون نصيبنا من جغرافية بلادنا سوى معلومات ضئيلة، لا تنبض بالحياة، ولا تكاد تنهض على قدمين، أو تقوم على ساق، لأنها تنبت في حجرات الدراسة فحسب، ولا تنال حظها من واقعية الحياة!!
ويقيني أنه واجب على المثقف إذا حل ببلد، أن يعطيه شيئاً من اهتمامه، وجانباً من عنايته، فيدرسه دراسة توقفه على جميع ما يعنيه، من مختلف نواحيه، بحيث يجيب إجابة حسنة إذا سئل عنه وخوطب بشأنه. .
وإذا فهم الإنسان البيئة الجديدة التي يحيا فيها، أمكنه أن ينتج على خير ما يحب، وأن يؤثر فيها كما يريد، دون أن تتكاءده عقبة، أو تقف في سبيله صعوبة، أية كانت. . . ومن الخطأ أن يترك بيئة دون أن يحدث فيها أثراً يذكره به أهلها، ويحيا به في ذكراهم على الدوام.
لهذا كله، عنيت بدراسة بلاد النوبة، ولن يكلفك معرفة جغرافيتها، أكثر من نظرة فاحصة إلى خريطة الوجه القبلي، وبخاصة مديرية أسوان، لتدرك أن الجزء المنزرع شؤيط ضيق على شاطئ النيل. . . بيد أن هذا الشريط يكاد ينعدم تماماً، ويتلاشى في المسافة ما بين الشلال وحلفا، وهذا الجزء نفسه هو بلاد النوبة، إحدى مناطق القطر المصري، وهي جزء