(إلى أستاذي الجليل أحمد حسن الزيات أهدي هذه الفصول)
لزمت هوميروس أعواماً ثلاثة أدرسه وأترجمه وألخصه فما ضقت به، بل ازددت له حباً وبه إعجاباً. وكنت كلما تركته فترةً أحسست شوقاً عجيباً إلى أدبه يجذبني ويلح على فأعود إليه فيخيل إلى أنه قد شرع يغني لي ويطلعني على صور غريبة رائعة من فنه الجميل لم أكن قد ظفرت بها من قبل، فأكب عليه عوداً على بدء، لأطوي الأحقاب الطويلة الماضية، ولأجلس في شرفة الزمان فأطل على أخيل وأجاممنون ونسطور وأجاكس وديوميدز وأوديسيوس في جانب المسرح، وعلى بريام وباريس وأندروماك وهيلين في الجانب الآخر، وبينهما ذاك الضجيج وذاك النقع، ومن حولهما آلهة الأولمب يشتركون في الوغى ينصرون أو يخذلون ما أجمل هوميروس!
لقد اختلف المؤرخون فيه اختلافاً شديداً، لكن اختلافهم لا قيمة له ما دامت الإلياذة والأوديسة، وما دمنا لا نجد بداً من أن نعترف لهما بمؤلف استطاع أن يسجل شخصيته في كلتيهما وأن يطبعها بطابعه الخاص. . فلم لا يكون المؤلف هوميروس؟ وإن لم يكن هو مؤلفهما فماذا يضير الأدب إذا سمينا هذا المؤلف هوميروس؟ وهؤلاء المؤرخون الذين ينكرونه بغير حجُة ولا برهان إلا أنهم يستكثرون على عقل بشري واحد هذا الإنتاج الضخم والمحصول الكبير الذي يكوّن أدب أمة، والذي نهل منه شعراؤها وشعراء الأمم الأخرى في كل زمان ومكان، وما يزالون ينهلون. . هؤلاء المنكرون لهوميروس لم لا يصدقون هيرودوتس الذي هو أبو التاريخ والذي ذكر أن بينه وبين هوميروس أربعمائة سنة؟
ألا يكون التواتر صحيحاً في أربعة قرون ويكون صحيحاً في عشراتها؟ إن تاريخ هيرودوتس هو أصدق ما وصلنا من التاريخ القديم، وقد ذكر لنا هوميروس وذكر ملحمتيه، بل حدد يوم وفاته، وقد سمع المنشدين في كل فج من اليونان يرددون بالتواتر أغاريد من