حين مات المنذر كان عدي رجلا شديدا ثقة يستعان به في جلائل الأمور وعظائمها، وكان يعمل في ديوان كسرى، وكان على صلة بالحيرة وما يجري فيها، وقد خلف المنذر أبناء يرفعهم بعض الرواة إلى عشرة، ويرفعهم آخرون إلى ثلاثة عشر، ولكن السيدين المنظور إليهما فيهم جميعا هما: النعمان والأسود. وقد قدمت لك أن المنذر دفع بالنعمان إلى حجر عدي بن زيد وأهل بيته لتربيته وتقويمه. وأما الأسود فقد تولاه، وأرضعه، ورباه، قوم من أهل الحيرة يقال لهم بنو مرينا، كانوا أشرافا. وكان أولاد المنذر جميعا يقال لهم الأشاهب من جمالهم وبياض وجوههم. وقد قال فيهم أعشى قيس بن ثعلبة:
وبنو المنذر الأشاهب في الحي ... رة يمشون غدوة كالسيوف
ولما أحتضر المنذر وخلف أولاده حار كسرى فيمن يعقد له أمر الحيرة، وأراد أن يختبر أبناء المنذر ليرى أيهم أحق بهذا الفضل، فبعث في طلبهم بمشورة عدي، ولما خلا بهم عدي - كما تروي كتب الأدب - أوصى كلا منهم بوصية مغشوشة مدخولة، إلا النعمان فقد محضه القول وأخلص له النصح. ولما دخلوا جميعا على كسرى يأكلون، كان النعمان في ثياب السفر ومتقلدا سيفه، وعظم اللقم، وأسرع المضغ والبلع، وزاد في الأكل، تبعا لوصية عدي، على غير ما فعل أخوته؛ فقد تباطئوا في الأكل، وصغروا اللقم، ونزروا. فأعجب كسرى بما فعل النعمان وولاه الحيرة.
وأنت ترى من هذا، ومما سبق، أن فضل عدي بن زيد على النعمان بن المنذر سابغ. ولذلك لم يكن من العجيب أن كان صديق الملك النعمان، وجليسه، ونديمه، في كل يوم لقية وخطاب، يخرجان للصيد معا، ويرجعان معا. وارتفعت أسهم عدي؛ فقد أحتال للنعمان وولاه، وغدا النعمان ملك الحيرة، ورثها بعد أبيه المنذر. ولم يكن بنوا مرينا ليرضوا عن النعمان، فإنهم أرادوا ربيبهم ورضيعهم الأسود ملكا للحيرة، ولكن تدبير عدي قرب النعمان